مراد و البرتقالات الثلاث

مراد و البرتقالات الثلاث

:أقصوصة

      د. مهدي عامري

في مدينة مراكش الزاخرة بالألوان والحياة، تتفجر الأضواء والأصوات في احتفالية البهجة و الوفاق و ينساب عبق التوابل و العطور عبر الأزقة الضيقة والأسواق المزدحمة بلغط المارة و جلبة الناس الطيبين.. فريد انت واحد منهم.. هنا، عاش فريد مع ابنه مراد، ذي السبع سنوات. و كان فريد رجلاً غير عادي، يُعرف عنه الحكمة و البصيرة وسعة المعرفة اضافة الى كم زاخر من القصص التي يرويها بروح من عاش تجارب العالم كلها.. و لم يكن لفريد قرية او مدينة معينة ينتمي إليها، بل كان يعتبر نفسه ابن العالم، يعيش بحرية مطلقة بعيداً عن قيود الهوية و الانتماء. و كل صباح، كان فريد يأخذ ابنه مراد في نزهة طويلة عبر المدينة، مشيراً إلى الأماكن والشخصيات البارزة، ومن خلالها يعلّمه دروساً عميقة عن الحياة. و ذات صباح مشمس، بينما كانا يسيران في ساحة جامع الفنا، جلس فريد وابنه على مقعدين من القش تحت شجرة وارفة الظلال. و أخرج فريد برتقالة ناضجة من كيسه وتأملها طويلاً قبل أن يخاطب صغيره :  مراد، الحياة تشبه هذه البرتقالة. القضمة الأولى منها تساوي التجربة الأولى في الحياة. قد تكون حلوة أو مرة، لكنها تجربة لا تُنسى

:وهنا نظر مراد إلى البرتقالة بعينيه اللامعتين وطلب من أبيه أن يعطيه إياها. ضحك فريد بلطف وأعطاها له قائلاً

“خذ هذه البرتقالة وتذكر دائماً ما قلته لك”

شرع مراد في اكل البرتقالة مستمتعا بمذاقها و عصارتها اللذيذتين، واستمع باهتمام إلى والده الذي يبدو انه لم يكمل له قصة اليوم: ” كانت تلك مقدمة القصة، و قصتي الكاملة لك تتعلق بثلاث برتقالات، و من المؤكد ان كل واحدة منها تحمل درساً من دروس الحياة

البرتقالة الأولى تمثل التجربة الأولى في الحياة، التي قد تكون حلوة أو مرة، لكنها تعلمك شيئاً جديداً

والبرتقالة الثانية تعبر عن كيفية مواجهة الحياة، التي تعصرك وتخرج أفضل ما لديك

أما البرتقالة الثالثة، فهي تمثل هدية الحياة، التي يجب أن تُعطى للأجيال القادمة مع الحكمة و التوجيه ” و كان فريد، بملامحه المشرقة وقسمات وجهه الاسمر التي تنم عن تجربة عميقة.. كان يروي قصصه لمراد بكلمات تختزل في طياتها عِبَرَ الأنبياء والحكماء

:وفي إحدى الليالي، بينما كانت النجوم تلمع في سماء مراكش الصافية، جلس مع مراد تحت شجرة زيتون قديمة في حديقة منزلهما. و بدأ الحديث قائلاً

“تذكر دائماً يا مراد قول النبي محمد “صلى الله عليه وسلم”: (إنما الأعمال بالنيات). و استنادا على هذا الحديث الشريف علينا أن نضع نوايا صادقة في كل ما نقوم به، سواء كان ذلك صغيراً أم كبيراً.” و تابع فريد: “و من المهم ايضا ان نستانس بتعاليم الشرق التي من جملتها أن السعادة لا تأتي مما نملك، بل من فهمنا للحياة، و اننا نبحث دائماً عن السعادة في الأشياء المادية، ولكن السعادة الحقيقية تأتي من الداخل، اي من السلام الداخلي والتوازن.” ثم ختم فريد حديثه قائلاً: (الحكمة تبدأ بالدهشة والتساؤل). و انطلاقا من هذه المقولة لكونفشيوس علينا دائماً أن نتساءل ونبحث عن المعرفة، لأن الفضول هو الذي يقودنا إلى الحكمة.” كان مراد يستمع بإمعان الى كلام والده و يتشرب كل ذرة منه كما يتشرب الاسفنج قطرات الماء ، و كان يحاول استيعاب كل كلمة يقولها والده بامعان النظر اليه و هو غارق في السرد و باطالة التفكر في قصصه في اوقات الفراغ. و مع مرور الأيام، بدأ يلاحظ كيف تنعكس تلك الحكم انعكاسا جميلا و ايجابيا في حياته اليومية. ففي المدرسة، عندما كان يواجه مشكلة مع زملائه، كان يتذكر اقوال السيد المسيح ويعامل اقرانه بمنتهى المحبة و اللطف. وعندما كان يشعر بالإحباط بسبب صعوبة بعض الدروس، كان يستحضر عددا من آيات القران ( إن بعد العسر يسرا)، ويبحث عن السلام الداخلي ليجد السعادة في التعلم ذاته، وليس فقط في النتائج

و ذات يوم ، بينما كان فريد ومراد يتجولان في أسواق مراكش المليئة بالحياة، توقف تاجر برتقال بجانبهما. و نظر فريد إلى مراد وابتسم قائلاً: “هل تتذكر قصة البرتقالات الثلاث”؟

:أجاب مراد مبتسما : . اكيد.. و كيف لي ان انساها ؟! و ابتاع فريد كيسا من البرتقال، وأعطى واحدة لمراد، وأخذ واحدة لنفسه، واحتفظ بالثالثة قائلاً

هذه البرتقالة الثالثة، سأحتفظ بها كهدية لمن يحتاج إلى الحكمة يوماً ما

 وفي إحدى الليالي المقمرة، جلس فريد مع مراد ليحكي له عن مغامراته في شبابه. تحدث له عن رحلاته بين جبال الألب و الهملايا، وعن لقائه بعدد من الحكماء هناك، وعن تلك الليلة القمراء التي قضاها في الصحراء تحت السماء المرصعة بالنجوم، حيث أدرك أن الحياة أكبر من مجرد البحث عن المال والمكانة الاجتماعية.. و كان فريد يسرد قصصه بروح الفيلسوف، حيث كانت كل تجربة تحمل درساً وحكمة

و مرت الاعوام، و كبر مراد و اشتد عوده و تالق في مساره الشخصي و المهني ايما تالق، و بينما كان مراد يزداد نضجا و انغماسا في تجارب الحياة ، أصبحت قصص والده تشكل جزءاً من وعيه وفهمه للعالم. و بدأ مراد يدرك أن الحياة، مثل البرتقالة، مليئة بالمفاجآت. يمكن أن تكون حلوة أو مرة، ولكن دائماً هناك شيء يمكن تعلمه من كل تجربة. و من جملة ما تعلمه مراد أن يعامل الآخرين بلطف، وأن يبحث عن السعادة في الداخل، وأن يبقى محباً للاطلاع و متعطشاً على الدوام للمعرفة

وفي يوم مشمس من شهر مايو، بينما كان فريد ومراد يجلسان تحت شجرة البرتقال نفسها التي بدأت منها قصتهما، سأل مراد والده: “أبي، تخيل انك تحتفظ في جيبك فقط بالبرتقالة الثالثة.. في هذه الحالة ماذا ستفعل بها ؟” و ابتسم فريد وأجاب: “يا بني، هذه البرتقالة الثالثة هي هديتي لك.و عندما يكبر ابناؤك ويواجهون صعاب الحياة، ذكرهم دائماً بما تعلمته هنا في مراكش، و ذكرهم أن الحياة مثل البرتقالة، مر قشرها لكن باطنها حلو و لذيذ

“و في ختام قصتنا نظر مراد إلى والده بفخر، وقال: “سأعتني بالبرتقالة الثالثة وأحتفظ بها كرمز لكل ما تعلمته منك

و مرت اعوام اخرى ورزق مراد بثلاثة صبيان ما لبثوا ان شبوا عن الطوق و ترعرعوا في احضانه  على المحبة و كنفه الكريم.. و امتد العمر باسرة مراد السعيدة ما شاء لها الله، و صار مراد و ابناؤه حاملين معهم دروس البرتقالات الثلاث، وأصبحوا ينشرون الحكمة و الحب في كل مكان يذهبون إليه، تماماً كما فعل والده فريد من قبل

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com