التطريزة 13: المناضلة الجزائرية لالة فاطمة نسومر
خولة جرجرة: قاهرة الجنرالات من أجل حرية الوطن
:استهلال مدخلي
تعود فكرة احتلال فرنسا للجزائر إلى مرحلة نهاية القرن الثامن عشر ، حيث تم توقيع معاهدة الاستسلام في 5 يوليوز 1830 ومعها ابتدا الاحتلال الفعلي الفرنسي ، ومن أشهر الثورات المناهضة لهذا الاحتلال نستحضر ثورة “لالة فاطمة نسومر” . فمن هي هذه المرأة ؟ وما الدور الذي لعبته في مقاومة الاحتلال ؟
وبالرجوع إلى بحث نالت به : ” أحلام حواوشة” و” نسرين خماسية ” شهادة الماستر في تاريخ المغرب العربي المعاصر عن السنة الجامعية 2021 – 2022
هي فاطمة بنت الشيخ محمد بن عيسى ، مقدم الزاوية الرحمانية وقد ولدت عام 1830 في قرية ورجة بمنطقة القبائل العليا شمال شرق الجزائر . وتميزت بالذكاء والحنكة، وجمعت بين المهارة الدينية والروحية، والنفوذ الإجتماعي، لتعبئة وتوحيد القبائل ضد المستعمر الفرنسي ، وقد جاءها لقب “نسومر” من كونها كانت تسكن في قرية نسومر ، وسط عائلة اشتهرت بالورع والتقوى والتعبد ، وقد حفظت االقرآن الكريم منذ الصغر ( كانت امرأة في غاية الحسن، متمسكة بناصية القيم النبيلة الموروثة عن أجدادها ) وكانت مطلعة على علوم الدين التي تشبعت بها من أخيها المسمى سي الطاهر ، وبعد عزوفها الطويل عن الزواج ، كثرت عنها الشائعات فقيل أنها مسكونة بالأرواح ، الأمر الذي دفعها إلى أن تتخد لنفسها في بيت أسرتها مكانا منزويا تحتمي به . ولكنها ما لبثت أن تزوجت مكرهة بالمسمى يحي ايخولاف ، فتظاهرت ليلة زفافها بالجنون ومع ذلك لم يطلقها وبقيت على نفس الحالة عند زوجها عاما كاملا ولم يقم بتطليقها ولم تتزوج بعده ، فتفرغت بذلك للعبادة والنهل من علوم الدين والتنجيم. وأمام المضايقات التي كانت تتعرض لها هاجرت مسقط رأسها قاصدة سكن أخيها الأكبر ، فداعت شهرتها وصار يقصدها الناس للتبرك بها
:ويرجع بعض الباحثين ومنهم
رابح لونيسي: أمر عزوفها عن الزواج إلى ما رأته من تعسف للرجال في حق النساء وهضم حقوقهن ، وكان من الطبيعي أن لا تتزوج وهي التي ترفض الاضطهاد من أي كان
وأمام تزايد الأطماع الفرنسية في احتلال بلاد القبائل التي تتمتع بمكانة استراتيجية هامة، فما كان من سكانها الا الوقوف والصمود في وجه الاطماع الفرنسية إلى غاية سنة1857 مشكلين الخطر الكبير على المستعمر الذي استطاع التحرك نحو بلاد زواوة والمناطق الجبلية الداخلية ، بعد اخمادهم لثورة الأمير عبد القادر ، وفي هذا الصدد يقول القائد الفرنسي الماريشال راندون ( عملنا الكثير كي نتغلب على مقاومة الاهالي ، إلا اننا بعيدين عن تحقيق خضوعهم الكامل )، ومما يذكر تاريخيا أن الجنرال بيجو سبق وأن هدد رؤساء تلك المنطقة بحرق قراهم ومحاصيلهم الزراعية أن لم يستسلموا ويسلموا خليفة الأمير عبد القادر ، غير انه تلقى منهم ردا لم يكن ينتظره
لقد طلبت منا ان نطرد ابن سالم، فكيف نوافق على ذلك والحال انه مسلم ونحن مسلمون ، واذا كنتم قد صممتم على أن تحكموا الجزائر باكملها وان تتغلبوا على قوم اعتصموا بالصخور والجبال ، فإننا نقول لكم : يد الله فوق أيديكم ، ولتعلموا أن من عاداتنا أن نتحدى النفي والتشريد والموت … ولا تظنوا أن إتلاف محاصيلنا الزراعية أو اشجارنا يجعلنا نتخادل أمامكم لان هذه المحاصيل كثيرا ما يقضي عليها الجراد أو تجرفها السيول ، وتلك الأشجار كثيرا ما تيبس وتموت … وما الرزق الا من عند الله
وكانت أخبار احتلالات الجيوش الفرنسية لبلاد القبائل الكبرى تصل الى للالة فاطمة نسومر، كما كانت على علم بتواجد الغزاة بتيزي وزو فأخذت على عاتقها تحميس المجاهدين للدفاع عن أراضيهم وممتلكاتهم وتعبئة وتوحيد القبائل ضد المستعمر
وما ان تم تعيين الجنرال راندون كحاكم عام للجزائر في 11 ديسمبر 1851 ، حتى أمر بمهاجمة الثوار في منطقة جرجرة لاتمام عملية الإحتلال، معتمدا في ذلك على الحرق والإرهاب والنفي ، غير أن كل ذلك لم يمنع الساكنة من الصمود ، ومن أشهر المعارك التي يذكرها التاريخ النضالي الجزائري، معركة واضية ، التي خاضتها للالة فاطمة نسومر إلى جانب بوبغلة ، في مواجهة فلول المستعمر الزاحف بقيادة كل من رانون و ماكماهون ، فكانت المواجهة الأولى بربوة تمزكيدة ، إلا أن عدم التكافؤ في القوات والعتاد اضطرت الشريف بوبغلة إلى أن يعمل بنصيحة للالة فاطمة نسومر ، وهي الإنسحاب نحو بني يني ، والدعوة إلى الجهاد المقدس الذي استجاب له شيوخ الزوايا ووكلاء المقامات ، فجندوا الطلبة والمريدين والاتباع ، فاتجهوا نحو واضية لمواجهة الزحف ، والحاق قوات العدو بهزيمة نكراء وخلال ذلك تمكنت للالة فاطمة نسومر من قتل الخائن الجودي الباشاغا بيدها
وفي 1854 خاض بوبغلة معركة شرشة ضد المستعمر بوادي ميباو ، وكادت أن تلحق به الهزيمة لولا مساندة ومساعدة للافاطمة نسومر مع مجموعة من المجاهدات والمجاهدين ، فلقنوا الجيش الفرنسي درسا لن ينساه ابدا ومن تم ذاع صيتها وخبر شجاعتها عبر كل مناطق القبائل، وصار السكان يدعون لها بالنصر في المساجد والبيوت بل وفي كل مكان ، وبذلك برزت كقائدة عظيمة لسكان المنطقة كلها ، وينبغي الإشارة إلى انه خلال هذه المعركة أصيب بوبغلة بجروح بليغة وكاد أن يقع في الأسر فقالت له للالة فاطمة : ايها الشريف لن تتحول لحيتك إلى عشب أبدا . بمعنى انك كنت رجلا مقداما صنديدا وستبقى كذلك . الأمر الذي دفعه أمام شجاعتها وقوتها الى التقدم لخطبتها من أخيها ، واقترح أن يدفع مبلغا ماليا لزوجها الأول مقابل تطليقها ، إلا أنه رفض ذلك ولم تتم هذه الزيجة
ومما يذكره الاستاذ رابح لونيسي عنها ، انه بعد أن تم اخضاع منطقة العزازفة سهل على الفرنسيين أمر السيطرة على منطقة أربعاء ناث ايراثن
فشرعت تلك المجاهدة في تجهيز السكان للجهاد قائلة لهم : هيا إلى الجهاد في سبيل الدين والأرض والحرية وهي مقدسات لايمكن التنازل عنها بأي ثمن وقد قادت الانتفاضة الثانية بمرتفعات أشريضن وهي التي انتهت بتفكك وتضعضع جيش الجنرال كامو وقد ارغمت الهزائم المتكررة الحكومة الفرنسية على تعيين ماكماهون لقيادة العمليات العسكرية بمنطقة القبائل
وبعد الإنتصار المحقق تراجع المحتل وعادت قوات المجاهدين إلى قرية نسومر مكللة بالانتصار، ولم يبق بأرض المعركة الا القليل من القوات لقضاء ليلتها هناك ، على أن تعود إلى قراها في اليوم الموالي الذي يصادف 18 يونيو ، لكن الجنرال ماكماهون فاجأهم بهجوم مكثف والحق بهم خسائر كثيرة ، فلم يكن من حل أمام للالة فاطمة غير تجنيد السكان من جديد ، وإقامة الحواجز على طول الطريق المؤدية إلى قريتها ، من باب الاحتياط وتحسبا لأي هجوم مباغث ، ساعية الى محو اثار الهزيمة ، فنشبت بينهما معركة تشكريت التي دامت يومين كاملين 18 و 19 يونيو 1854، وخلالها تم تجنيد الفتيات والنساء على اختلاف أعمارهن إلى جانب الرجال لمقاتلة العدو وإعداد العتاد والزاد اللازمين ومواساة الجرحى والمرضى والعناية بهم ، ورغم أن المحتل عمد إلى عملية الحرق الواسعة ، فإن النصر كان حليفا للمجاهدين ومني المحتل بخسارة بشرية هامة ، الأمر الذي شكل لهم إهانة كبيرة . وسيكمل اهل زواوة الكفاح الثوري مابين 1855 و 1857 بقيادة للالة فاطمة نسومر التي ظلت صامدة ثلاث سنوات كاملة ، شهدت فيها قراهم الخراب وقتل المواشي وقطع الأشجار ، وفي هذا الصدد تقول إحدى الشهادات
دخلت الفرقة العسكرية التي كان يقودها السيد باتي إلى منطقة آيت منقلات ثاوريرت، فأقتحم الجنود المنازل فنهبوها ، وأفرغوا الحبوب المخزونة في المطامير، وبعجوا القراب المملوءة بالزيت وهدموا البيوت وأخذوا أخشابها وجمعوا خشب كل قرية في ساحة المسجد وأشعلوا النار بعد ذلك ليحترق كل شيء، ومع ذلك لم تتمكن كل هذه الأفعال الإجرامية والأساليب الوحشية في اخماد عزيمة المقاومة . وفي يوم 24 يونيو 1857 جرت معركة ضارية اعتمد فيها المستعمر على القصف المدفعي الذي أحدث ثغرات في صفوف المجاهدين ، وهو ما استغله الجيش الفرنسي ليلحق خسائر كثيرة
بقوات للالة فاطمة ، فكانت مجبرة على الإنسحاب الى قرية نسومر مع ماتبقى من المجاهدين ، ومنها أخذت ترسل إلى مختلف القرى تدعوها للجهاد قائلة :علينا أن لا نبقى مغمضي الأعين أمام خطر الفرنسيين الذين يهددونا ويتربصون بنا ، فخطرهم يزداد يوما بعد يوم لأن الوقت لصالحهم فهم يزودون باستمرار بالرجال والعتاد وحين يشعرون بأنهم أقوياء سيهاجموننا ، انهم يحتلون أرضنا بالسلاح ، فيجب علينا طردهم منها بالسلاح أيضا
فكونت بذلك فرقا سريعة من المجاهدين يتبعون مؤخرات الجيش الفرنسي ويقطعون عليهم طرق المواصلات والامدادات ، ونتيجة الهجمات المتواصلة لها تعاظم شأنها فماكان من سلطات الإحتلال إلا أن تتخوف منها وتعد جيشا من 45 الف رجل بقيادة الماريشال راندون ، الذي استطاع أن يرجح كفة الغلبة لديهم ، نتيجة عدم التكافؤ ثم طرحت مسألة المفاوضات وإيقاف الحرب بشروط أربع هي : رفض دفع الضرائب – خروج وبقاء القوات الفرنسية خارج القرى والتجمعات السكنية – عدم متابعة ومعاقبة رجال الثورة – حماية الأشخاص والممتلكات . وقد تظاهر المحتل بقبول هذه الشروط ، إلا أنه سرعان ماخدعهم وأمر المريشال بالقاء القبض على الوفد الجزائري المفاوض الذي كان يقوده أخوها سي الطاهر ، وتم الإتجاه نحو ملجأ للالة فاطمة وبعد القاء القبض عليها في 11 يوليوز 1857 تم أسرها مع عدد من النسوة في ظروف قاسية وتعرضت للتعذيب ومع ذلك ظلت صامدة ورافضت للاستسلام ، وقد اصيبت بشلل نصفي بعد وفاة اخيها سي الطاهر في 1861 . وظلت كذلك الى ان توفيت في سجنها عام 1863 تاركة وراءها ارثا من البطولة والتضحية وتم دفنها في إحدى زوايا بني سليمان بمقبرة سيدي عبد الله ، غير بعيدة عن المكان الذي توفيت فيه قبل ان ينقل رفاتها إلى مربع الشهداء بمقبرة العالية سنة 1995 ، وهذا المكان هو حاليا متحف سمي باسمها سنة 2009 ، ولتخليد ذكراها أُنْجز لها تمثال من صنع بعزيز هماش في تيزي الجمعة في أبي يوسف
وأمام قوتها وصمودها أطلق عليها المؤرخ الفرنسي ” لوي ماسينيون ” لقب ” جان دارك جرجرة ” تشبيها لها بالبطلة القومية جان دارك . غير أنها كانت ترفضه مفضلة عليه لقب خولة جرجرة ، نسبة الى خولة بنت الأزور المجاهدة المسلمة التي كانت تتنكر على هيئة فارس وتحارب إلى جانب الصحابي الجليل خالد بن الوليد
وختاما نخلص الى انه قد ألحق بها الكثير من الأساطير والخرافات ، فقيل عنها مرة انها جنية ، ومرة أخرى قيل انها ليست من البشر وأنها ملاك أنزلها الله للدفاع عن دينه وعموما يبقى كل ذلك غير صحيح لأنها أمرأة مناضلة لعبت دورا محوريا وفعالا وقدمت الكثير من التضحيات في مقاومة الإحتلال الفرنسي وتحرير الوطن ، وبذلك فهي تستحق اسم قاهرة الجنرالات الذي اطلق عليها