..أقصوصة للدكتور مهدي عامري: علي يكتب
..علي يكتب
عاش على طفولته في قرية صغيرة تحيط بها الجبال الشامخة والأودية الخضراء. كانت حياته بسيطة، مليئة بالأحلام والتطلعات. كان علي، مثل نبتة تخلقت في اعماق البراري، فقد انبثق منذ نعومة اظافره من تربة نقية، و لا يزال فتىً طاهراً، ممتلئ القلب بنور الايمان و حب العلم و التعلم. و كان علي يرى الكون ككتاب مفتوح، و يقرأ في صفحاته أسرار الوجود و معاني الحياة. كان علي يهوى قراءة الشعر و كتابة اليوميات و الخواطر ، و كان يجد في هذين الطقسين المقدسين متعةً روحية تفوق كل متع الدنيا. و كان يردد دومًا، في السر و العلن : “إني أعجب لما يدفعني للكتابة في زمن اللاقراءة”. وكان يستشعر أن الحروف التي يخطها ليست مجرد كلمات، بل نوافذ إلى عوالم أخرى، تأخذ بيديه إلى مدائن الحكمة و ملكوت الروح.. و في قريته الصغيرة الواقعة على مبعدة يسيرة من “امي ن تانوت” ، عاش علي كفارسٍ في زمن السلم، يقتفي أثر الحقائق، ويبحث عن الجمال في تفاصيل الحياة اليومية. و كان علي يرى في كل شيء حوله تجلياً لقدرة الواحد الاحد ، وكان يقول لأصحابه بعد ان ضرب الوباء الشيطاني في مستهل 2020 كل أطراف الارض.. كان يقول لهم : # دخلنا يا احبابي زمن اللايقين وانهار كل شيء، لكن لم يبق ولن يدوم إلا وجه الله”. و كانت هذه الكلمات تجد صدىً في قلب الحسين، صديقه الذي كان يعيش حالة من الشك و الضياع، و يبحث عن معنى لحياته وسط ظلمات الفراغ و ضيق ذات اليد. و في يوم من الأيام، قرر علي أن يتوقف عن كتابة الشعر و الخواطر، و ان يكتب هذه المرة، بالأحرى، قصته مع الالم و اللايقين في زمن الكورونا، و لكن بنكهة الثقة في الله و بمداد الامل.. و فكر علي : ربنا موجود، ليس فقط في الأعالي، و لكن في كل قلب يحس. ربنا ما وسعته السماوات و الاراضي، لكن.. وسعه قلب العبد المؤمن.. و كان علي يعلم أن الأمل وحده لن يكون كافيًا. كان يؤمن بأن الأمل هو ترياق البائسين، وأن ما يحتاج إليه للتعافي ليس الأمل، بل الفعل. و ذات يوم لن ينساه قال لنفسه، بسخرية لاذعة : “لا داعي لاستنبات الأمل في صحراء الروح، فما تحتاج اليه يا علي ليس الامل وحده.. انت تحتاج الى الفعل.. “. ثم أضاف بمرارة: “لقد علّمونا في المدرسة أن الأمل هو المفتاح، لكنهم لم يخبرونا أن الأبواب مسدودة تقريبا دائماً في وجه من لا يملك واسطة، و في وجه من لا يعرف وجيها نافذا في المجتمع يتكئ عليه…” و هنا تذكر علي قول محمود درويش : “في اللامكان أُقَدِّمُ كُلَّ الذي ضاعَ مِنِّي إلى اللامكان، وأرجو خلاصًا خفيفًا، وأبني لنفسي من الماء بيتا”. و في نهاية المطاف، امسك سي علي قلما و كراسا ضخما و راح يكتب : # علي.. اسمي علي وهذه قصتي.. هل لديك متسع من الوقت لتقرأها على عجل؟ ” و بدأ علي يسرد تفاصيل حياته، و أحلامه، و آماله في التغيير. و كان يشعر بأنه يكتب شيئًا مهمًا، شيئًا قد يترك أثرًا في قلب قارئ ما، في زمان ما، و مكان ما.. و استمر علي في الكتابة، معبرا عن فيض لا ينضب من الافكار و المشاعر.. و كتب من مجمل ما كتب عن : بؤس العالم، و جشع المسؤولين، و نهب مدعي البطولة و الوطنية لخيرات الوطن، و نفاق اغلب متصنعي التدين، و استعباد الانسان لأخيه الانسان، و تقتيل النساء و الاطفال بدم بارد في ارض الكرامة و العزة، و ركز في كتابته على الأيديولوجيات الفانية و نهايتها الحتمية في مزبلة التاريخ. و كان علي يشعر بأن رسالته قد تصل يوما إلى أحدهم، و لو بعد حين… و ربما تغير، في زمن ما، حياة شخص ما للأفضل. و هنا استذكر قول لويس بورخيس: “ربما يكون هناك عدو واحد، انه الوقت. سأنتظر غدًا، و أتوسل إلى الله أن يجعلنا نقبل النهاية التي تنتظرنا..” و كانت القصة التي كتبها علي بدمه و دمعه و ماء قلبه طويلة حزينة، رغم ان الحزن المتولد منها مصطبغ بالوان التسليم و الامل.. و إذا اردت ان تطالع السطور الاخيرة لقصة علي فها هي ذي.. تفضل : # لقد قرات قصتي من الالف الى الياء راجيا ان تترك فيك وشمًا أو أثرًا أو ندبة لن تظهر الآن، لكن ربما بعد حين. تأكد أني لن أربح شيئًا بتدبيج هذه الكلمات، لان من يصنع التغيير هو القارئ. فالكاتب يكتب ويمضي لحال سبيله، لكن القارئ هو من يقع في يده الكتاب و يمكن ان يحول محتواه الى طاقة من الفعل.. و ربما تحمل هذه الكلمات في طياتها رسالة عميقة، رسالة إلى كل من يقرأها بأن التغيير يبدأ من الداخل، من الفعل و ليس من الأمل وحده. و إني لأرجو ان تترك كلماتي أثرًا في قلب كل من قرأها، أثرًا لن يزول بمرور الزمن، و ان يكون ذاك الاثر مزيجا من البكاء و الضحك.. و في هذه اللحظة من الكتابة، تذكر علي المقولة الشهيرة لعملاق الكوميديا، الضاحك الباكي، شارلي شابلين : ان يوما واحدا دون ضحك هو يوم ضائع