قراءة نقدية في نص سردي
قراءة آثمة في حكي ماكر
الناقد: نور الدين حنيف أبو شامة / المغرب
عنوان المتن المقروء: كتاب حب ضائع في أرض يباب… ومقصلة
نوعه: قصة ليست قصيرة
الكاتب: عبد الرحمن بوطيب / المغرب
——————————————————
1/ القراءة
:مكرُ العتبات
في مستهل المتن تتبدى علامتان، واحدة تفضح تيمة الضياع، و ثانية تمكر بالتجنيس، و في كلا العلامتين نحس شجْب الراوي هذا الماحولَ المادي و الفكري و إدانته، و نقصد بالمادي تيمات الضياع و اليباب و الموت؛ في حين نقصد بالفكري رؤية الراوي لفن الحكي عبر قراره البائن بينونةً كبرى و هو يسائلُ جنساً أدبياً و ينفي عنه خاصية الامتداد في وصمِهِ إيّاهُ بـ (ليست قصيرة) اعتباراً لسلطان الحجم و الكمّ في تحديد الماهيات الأدبية، و هو السلطان الذي يبدو من خلال السياق أن صاحبنا لا يرضى عنها أبداً
و من هذين المكرين نكتفي بواحد في هذه التوطئة، و هو المتعلق بالتجنيس، لحاجةٍ بعيدة عن المفاضلة بقدر ما هي لصيقة بمنهج التداول لهذا الموضوع في جرأته الأدبية العامرة داخل سياقٍ يروم التعتيم و التعميم و تسمية المتون بغير أسمائها هروباً من مسؤولية التجنيس، أو تهريباً لعجزٍ واضح عن فعلِ التجنيس
أصرّ السارد على وضع العنوان في وضعية ماكرة لا تبدو براءتُها التلقائية بقدر ما يبدو إثمُها المشروعُ في نقد الخطاب السردي… قال: (كتاب حب ضائع في أرض يباب… ومقصلة)، و هو عنوان مُذيّل بمكرٍ آخر، قال: (قصة ليستْ قصيرة)
فما الدّاعِي إلى هذا الهجوم الأدبي على النوع القصصي متلبّساً بمفهوم (القصيرة)؟
الجواب في نظري القاصر موجود في رؤيتيْنِ، واحدة عامة و أخرى خاصة؛ فأما العامّة فترتبط باستنكار السارد لتغوّل ما يُدَّعى أنه ينتمي إلى فن السرد، و فنّ القصّة، و قدْ سمّاهُ أصحابُهُ في يقينٍ غريبٍ تسميةً مُكثّفة و أقحموه في جسد السرديات، و بَنوا له عالماً من الخرجات مشفوعةً بتراكمات تأليفية غمرتِ الساحة الثقافية، و جنّدوا له ترساناتٍ من المقاربات و الندوات و المحافل… و أما الخاصّة فترتبط بميثاق براءة من هذا الجنس الأدبي إن جاز نعته بذلك؛ فالسارد يؤمن بالامتداد النفسي و الزمني للإبداع، و هو لا يقدر على تصوّر خطفِ الحدث الذاتيّ أو الغيْرِيّ في مساحةٍ قوليةٍ مركّزَةٍ مسْروقَة و سريعة لا تُوفّر للقارئِ فسحةً زمنية من التفاعل المنساب مع صيرورة السرد في عمقه الوجودي و في عمقِه الفنّي
ناهِيكَ عن إحساس السارد بعمق و غور ما يحدث له في صميم الحياة المتنكرة له، و بالتالي إحساسه بالغبْنِ و هو يغرف من سيرته الطويلة العميقة ثم يصبّه في إناءٍ نوعيٍّ لا يقدر على استيعاب دفق الروح المجروحة و المطروحة هنا؛ فالصورة في آخر المطاف تشبه من يروم صبّ مائة لترٍ من بنٍّ في فنجانٍ لا يتّسعُ لثلاثِ رشْفات، و لكم أن تتصوروا هُزءَ المشهدِ و وخْزَهُ و الروحُ العارمة تتدفق هدراً خارج هذا الفنجان المسكين… السارد هنا يشجب النعت (قصيرة) و كأنّه أيضاً يصرخ في وجهِنا أنْ نُسمّي ما قَصُرَ في تصوّر مشّائي هذا النوع باسم آخر غير القصة، توقِيراً و احتراماً لهذا الجنس الأدبي التاريخي و المارد
:مكرُ السرد
يتجلى هذا المكرُ الأدبيّ في بنيتيْن سرديتيْن تُسيِّجان مسار السرد، و يتعلق الأمر بفعل (أغلق) المتصدّرِ لصيرورة الحكي، و فعل (واصل) الخاتِمِ لهذه الصيرورة في تجدّد و انفتاح مُشْرعٍيْنِ على الممكن و اللاممكن من عمليات اجتِراح السرد، فكيف نستوعبِ هذا الانشطارَ السردي بين نسقيْنِ: واحدٌ مغلقٌ و الثاني منفتح؟
يتحرّك السرد في هذه القصة المستشكلة في حجمها داخل قدر البحث عن شكلٍ مناسبٍ لكتاب الحب، مادام الساردُ مقتنعاً جدّاً بأن الحبّ مستحيلٌ خامسٌ مضافٌ إلى الأربعة القابعة في استحالة الجمال القيمي كما سطّره همسٌ قديمٌ في التراث
لَمَّا رَأَيْتُ بَنِي الزَّمَانِ وَمَا بِهِمْ
خِلٌّ وَفِيٌّ، للشَّدَائِدِ أَصْطَفِي
أيْقَنْتُ أَنَّ المُسْتَحِيلَ ثَلَاثَةٌ
الغُولُ وَالعَنْقَاءُ وَالْخِلُّ الوَفِي
صفيّ الدين الحليّ
وهذا الهمسُ يتكرر في سياق آخر حداثِيٍّ موسوم بفكرة النوع الحاكي لا المترنّم، و بفكرة السرد المكتوي بسطحية الماحول و قسوته و تنكره لذاتٍ أجمعتْ كلُّ تفاصيلِها على تبنّي فلسفة العطاء في غير منٍّ و لا أذىً أو انتظار شكرٍ أو مقابل، و عِوضَ أن تُتَوَّجَ الذاتُ الساردة باعترافٍ جميلٍ و جليلٍ من قِبلِ هذا الماحول، نجد هذا الأخير يُسارِعُ في إعدامِ هذه الذات و التنكيل بها في غير رحمة أو حتّى شفقة، فيبْني لها مقصلة و يدعو الدهماء إلى الاحتفال بلحظة الشنق و الفتك و القتل
السردُ هنا لا يفتكُ بالإنسان وحده، بل يفتك بالقيمة، فالإنسانُ ماضٍ في تخومِ السديم فيما القيمةُ باقيةٌ ما بقيَ المعنى… من هنا قسوةُ السردِ في هذه القصة المستشكلة، لأن الأتّهامَ لا يستهدفُ الأنامَ في هبوطهِ بقدر ما يستهدِف الفكرةَ في تردِّيها و في أفولِها و اندحارِها، و هو لعمْرِي أقسى و أشدّ مضاضةً على الوجود الإنساني في مشروعِ كينونتِهِ و هو لا يدرِي كمْ يفتِك بهذه الكينونة خارجَ مقولاتِ التناغم و الحب
يتقدّمُ السرد إلى المتلقّي في بنيتيْنِ أخْريَيْنِ، واحدة مثبتَةٌ و أخرى منفية لحاجةٍ في نفس السارد (أغلق — خرج — تعب — جلس — نفت — واصل)، في مقابل (لم يجد — لم يعرف — لا تعرفه — لا يعرفونه — لم ينتبه — لم يلاحظ)، و هنا بالذّاتِ لا تهمُنا الأفعالُ في تعبيراتها المباشرة عن معناها الثاوي في وجودها القاموسيّ بقدر ما يهما سكونها و حركيتها، انغلاقها و انفتاحها، استسلامها و شجبها، مكرها و براءتها، دناءتُها و كرمها
و لنأخذ مثالاً لذلك، ففعل (أغلق) لا يرتبط في المحكي بعملية حسية فيزيائية ترتبط بوجود حسي لباب أو ما جاور، بقدر ما يرتبط بمدخل يتجلي في أبعاد غزيرة منها البعد المعرفي (أغلق ملف الدراسة النقدية) و البعد النفسي (لم يكملها بعد) و البعد الانتظاري المرتقب بقافيْنِ واحدةٌ مفتوحةٌ و أخرى مكسورة… و هكذا فكل الأفعال هنا لا تتحدد ماهيتها إلا داخل السرد في مكره الباني للأنساق المعرفية و النفسية و الوجودية بشكل عام
داخل هذه النسقية الواخزة، يتبدّى محورُ النفيِ قويّاً و مؤلماً لأنه ورد في سياق الآخر المتنكّر، و هو نفيٌ دلاليٌّ لا يقف عند حدود السلوك المجانب لقواعد السلوك البينية في مجال الاجتماع، إنه نفيٌ فلسفيٌّ من جهة الذات المستقبلة يستبطن القيمةَ في وجهَيْها: الوجه المعترف و الوجه المتنكر
داخل هذه الثنائية ترقد المعاناةُ التي تتجاوزُ الإحساس بالغبنِ إلى الإحساس بالعبثية، و في ذلك ما فيه من فلسفة تُلغي الفعل و ردّ الفعل لتثبِتَ القيمة و اللاقيمة
و الانغلاق في مقابل الانفتاح، هما أكبر من نسق سردي ينظّمُ عين القارئ و ذهنه داخل مسار الحكي، إنهما إذانةٌ قاسيةٌ لفعل غير مسؤول، و شجبٌ وجوديٌّ لسلوكٍ جانبَ المعقول، و في آخر المطاف، فهما مسارُ حكي يصرخُ في وجهِ الرّداءة القيمية التي تتغوّل في الماحول و تُملي على الذواتِ قراراتها العطنة و كأنها محاكم تفتيشٍ تعود من أزمنة الظلام القروسطي لتمارس سطوتها على الفن و الإبداع و الإنسان، تتسلطنُ و تتمادى في سلطانها لتحكم قبضتها على عنق الساحة الإبداعية، تؤشّرُ للمرور على ما أرادتْ هي في غير معيار
: مكر الكمّ و الحجم
يُعْفينا السارد من البحث عن مبطّنِ حكيهِ فيما يخصّ شكل المتن الذي نتنزّه في عمقه المؤلم، و المتتبع لهذا المسار يدركُ مورفولوجيا الرسم، و أقصد الكتابة الطباعية للنص، و هي الموسومة بكثيرٍ من نقط الحذف، و هي علامة سيميائية شكلية تنطوي على أكثر من دلالة؛ و أقربُها إلى محطّتنا التحليلية هو تعبيرُها عن قناعة تجنيسية للمتحدّث هنا باسم السارد… إنه يعترف في مكر الحدث و سرد الحدث و تشكيل الفضاء بشيء واحد و أساسيّ، هو النوعُ الأدبي، فالسارد يقدّمُ في نقط حذفه رواية كاملة بتفاصيلها و جزئياتها و متاهاتها و تلميحاتها و تصريحاته، في لبوس جنس القصة القصيرة، مع العلم أن الأفعال السردية هنا فاضحة لمشروع الرواية العميقة في مكر هذا السارد
و المتتبعُ باجتهادٍ لهذا الصوغ القصصي سيدرك لا محالة كم هو مختزلٌ هذا الحكيُ لعوالم أخرى معلنٍ عنها في قبضة الإشارة بدل العبارة الثواية في مستقْبَلِ الرواية
:ختم مفتوح
الباحثُ و الناقدُ و الشاعرُ و الروائيُّ (عبدالرحمن بوطيب) علامة إبداعية مثقّفة كبيرةٌ جدّاً على وصفنا أو تقريضنا أو مدحنا أو تحليلنا، و هو رجل لمْ يحظَ بَعْدُ بأيّ اعترافٍ أو تقديرٍ أو حق
وعيبٌ ، كلُّ العيبِ أن يُتركَ هذا المبدعُ في الظل، فيما هو يُزِيحُ باستمرارٍ قويٍّ الستائر عن المغمروينَ و المغموراتِ في ساحتنا الثقافية الموسومة بالتناقض القيمي الغريب
نور الدين حنيف أبو شامة
المغرب
——————————————————
2/ المتنُ المقروء
[ كتاب حب ضائع في أرض يباب… ومقصلة ]
قصة… ليست قصيرة
عبد الرحمن بوطيب
الدار البيضاء / المغرب: الخميس 11 أبريل 2024
أغلق ملف دراسته النقدية التي لم يكملها بعد… خرج يبحث عن كتاب الحب في دروب المدينة… لم يجد ضالته في الدكاكين والأكشاك والحمّامات والمقاهي… لم يعرف طريقه إلى مكتبة في دروب لا تعرفه… كل الوجوه التي يصادفها في طريقه لا تعرفه… كل الوجوه لا تعرف الحب الضائع الذي يبحث عنه رجل لا يعرفونه… وصل إلى مركز المدينة… سأل كلَّ الناس عن مكتبة… لم ينتبه إلى أن فرقة من الناس كانت تتغامز من وراء ظهره… لم يلاحظ أن فرقة من الناس كانت تشفق على رجل يبحث عن كتاب حب ضائع في دروب أرض يباب… تعب… جلس على رصيف قديم… أخرج من جيبه ورقة وقلماً… كتب “هذا كتاب الحب والضياع”… بدأ يسرد… يسرد… يسرد… يتعرق… يتعرق… يتعرق… يرتجف… أحس بحركة حوله… رفع رأسه… شاهد مقصلة منصوبة أمامه… وعديد جلادين بألف قناع وقناع… أشعل آخر سيجارة سوداء متبقية في علبته القديمة… نفث من صدره سحابة دخان أسود كثيفة… واصل سرده
عبد الرحمن بوطيب
المغرب