دراسة تحليلية
“أبراج من ورق”
بناء سردي وفق هندسة خاصة
رواية “ أبراج من ورق ” للكاتب المغربي “” سعيد رضواني ” الحائزة على جائزة أسماء صديق المطوع للرواية الأولى، عن منشورات دار الآداب
متنقلا بين القرية والمدينة يبني الكاتب أبراجه وفق نسق سردي خاص، يكسر البناء التقليدي ليتبنى هندسة مختلفة تعتمد على التناظر السردي
منذ الوهلة الأولى يصادفنا مفهوم البناء الذي تكشف عنه عتبة المتن الروائي من خلال العنوان الذي يحيل على الأبراج، بغض النظر عن مادة البناء. فالبرج كما نعرف هو كل بناء مرتفع، سواء بشكل دائري أو مستطيل. ويتضح لنا نوع البناء عندما يتم إلصاق الأبراج بالورق، فنخلص إلى أن المقصود هو ” أبراج من ورق “
هكذا يبدو لنا أن الكاتب ينحو إلى بناء خاص يختلف عن النمط المعهود الذي يعتمد على بداية، وسط ثم نهاية، بل يضع هندسة خاصة لبنائه السردي منذ البداية، يؤكد ذلك لجوؤه إلى تقنية التناظر السردي، حيث قسم روايته إلى جزئين متقابلين، يتكون كل جزء من مجموعة عناوين، لكل عنوان في الجزء الأول ما يقابله في الجزء الثاني
تتقابل أدراج البرج الأول وسلم البرج الثاني، ليتم التسلق عبرهما إلى بناء أبراج الرواية
يفصح الكاتب نفسه عن لجوئه إلى مبدأ التناظر بقوله:” أقر الآن، أنا الذي اخترت تأليف هذا الكتاب وفق هندسة متناظرة الفصول، بما في هذا التناظر من تماثل وتباين وتقابل..”
لن أقتحم تفاصيل السرد، تفاديا لحرق مراحل التشويق لقارئ مفترض، فقط سأشير لبعض العناصر كإضاءات
تتم أحداث الرواية من خلال التنقل بين القرية والمدينة، حيث يحاول الكاتب الربط بين الماضي والحاضر من خلال استحضار ثلاثة أجيال، انطلاقا من الجد مرورا بالأب والأم إلى الحفيد الذي يعمل على حفظ ذاكرة الأسرة
:تبدأ الرواية على الشكل التالي
” لا أذكر من منا كان يمضي في ذلك الطريق المترع بسخونة يصرفها طاقة تكوي”
أتأمل هذا المدخل الذي يطاله التشويش فيحيلني للتو على ألبير كامي في روايته ” الغريب ” ومدخله العبثي الشهير: “اليوم ماتت أمي…أو لعلها ماتت أمس…لست أدري”
يتكرر هذا التشويش وعدم اليقين في مقاطع أخرى من الرواية:” سأعرف بعد أن أدقق مرة أخرى…أنه هو وليس أنا من قطع المسافة الفاصلة… وأنني أنا وليس هو من قطع ما تبقى من الطريق “
:ويجعل الأم المتوفاة تنطق كما لو كانت على قيد الحياة
” هل أنا حية أم ميتة يا إبني؟”
وعلى نفس المنوال نجده في الجزء الثاني يكرر مجموعة من الجمل كما في الجزء الأول فيما يشبه اللازمة
:يبدأ الجزء الثاني بقوله
“لا أذكر من منا كان يمضي في ذلك الطريق المترع بصقيع ينعكس برودة على ما حوله”
ويجعل الأب المتوفى يقول على غرار ما قالت الأم:” هل أنا حي أم ميت يا إبني؟ “
هذه بعض النماذج من التكرار التي يلجأ إليها الكاتب كنوع من الانحرافات السردية، إذ يعمل على تحطيم التسلسل الزمني النمطي وفق انتقالات مقصودة تجعل من الصعب تلخيص الرواية من زاوية معينة، كما يلجأ بين الفينة والأخرى إلى تقنية ” الفلاش باك” لاسترجاع بعض الأحداث خارج الخط الزمني بهدف إعطاء سرده شحنة أقوى أو بغية تعميق شخوصه
:ويظل هاجس الكتابة والنشر حاضرا في الرواية، نلمسه في مجموعة من المحطات كقوله
أمضي لأكمل تأليف كتابي
بعد احتفال والدي بإصداره
خوض مغامرة الكتابة
أراجع مخطوط كتابي
:كما يلاحظ حضور الذاكرة البيضاوية بوضوح بين ثنايا السطور من قبيل
شارع الفدا – ساحة السراغنة- معرض الكتاب المستعمل
وينهي الكاتب روايته بتمجيد القراءة والكتابة:” بإدماني القراءة والكتابة، تفوقت على ظروفي وعلى نفسي”
وبالعودة إلى هندسة الأبراج، وكيف جعل الكاتب روايته تبنى وفق جزئين متناظرين، يتكون الجزء الأول من 26عنوانا والجزء الثاني من 27عنوانا. نلاحظ أن الجزء الثاني الذي ينتصر للحرف مقابل الإسمنت ترجح كفته لتكون الغلبة للورق، ويظل ” الورق أقوى من الإسمنت
بعد أن أنهيت قراءة الرواية عادت بي الذاكرة إلى استحضار المخزون من المقروء، فمرت بي عبر رائعة غابرييل غارسياماركيز ” مئة عام من العزلة ” فاستحضرت بلدة ماكوندو الصغيرة وتعاقب مجموعة من الأجيال، والقتيل الذي لا ينفك يظهر باستمرار
وتبقى لرواية ” أبراج من ورق ” خصوصيتها النوعية التي تشد القارئ إليها من خلال بنيتها السردية المختلفة وهندستها التي لا تنسج على منوال معين
فاطمة عدلي
قراءة مستفيضة باستباق واسترجاع بعيدة عن القوالب الجاهزة بانطباعية وبمخزون ثقافي غني