“قراءة في ديوان “نيلسان ملفت
قصيدة النثر غير ملتزمة بالتفعيلة
قراءة في ديوان “نيلسان ملفت” للشاعر والفنان التشكيلي التونسي مهدي غلاب
هكذا تجده ، كالفراشة يدنو من العظمة بقدر ما يدنو من التواضع كما يقال، إنه يهيم متنقلا من زهرة إلى أخرى ليقتنص الجمال، فالفن بالنسبة له يماثل الحب في كونه غير قابل للتفسير. المهدي غلاب، الشاعر والقاص والفنان التشكيلي من تونس الزيتونة ، الأرض الذي متعها الله بالتنوع الثقافي بامتياز
أستاذ اللغة العربية للناطقين بغيرها بباريس، يدرس تاريخ الفنون وأثريات المعرفة بالسوربون، رئيس جمعية المجمع الدولي للآداب والفنون البصرية ، عضو دار الفنانين بباريس، نظم العديد من المعارض الفردية والجماعية بتونس وفرنسا والمغرب ، ومن إصداراته الأدبية
ديوان “أشتكي.. للقمر!” أقاصيد سنة 2016
ديوان متكامل في الشعر العمودي: “منازل الوجدان” سنة 2018
ديوان “نيلسان ملفت”: شعر عمودي: 24 قصيدة تحتوي على 105 ص صادر عن دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع سنة.2021
الشاعر المهدي غلاب المقيم في باريس في كثير من كتاباته أو حتى في تشكيل لوحاته قد تجده يبحث عن هامش من الحرية عبر تأرجح تداولي ما بين إيقاع حرف ولون مسافر في استثنائية ممزوجة ما بين الواقعي والتجريدي
ديوان “نيلسان ملفت”: يرسم فيه خط القصيد كما يرسم اللوحة وبصمته حاضرة وبسحر بصري لافت وجمالية حسية ومادية معا، كل هذا مشحون بعاطفة وأداء قوي يساعده في ذلك تبنيه لإيقاع القصيدة العمودية المبني على الوزن والقافية ومكنوناته التعبيرية هي عوالم إبداعية غائصة في فلسفات متناسقة وطقوس تمتح مقوماتها من استجلاء المفردات والصور وتستمد وجودها من تخييلات فنية خالصة
المهدي غلاب كتب في قصيدة النثر كما كتب في القصيدة العمودية، حيث يقول إنه مبتكر لجنس نصي أدبي جديد ألا وهو الأقصودة: لاهي بشعر ولا هي بنثر وقَصَدَ الشَّاعِرُ يعني َنشَدَ قَصَائِدَ.والأقصودة هي جنس أدبي يمزج بين القصيدة البرقية والقصة الومضة ابتكره الكاتب مهدي غلاّب لأول مرة وذلك بمباركة من طرف عدد من الكتاب والنقاد على الساحة الأدبية في تونس
ولأن حضور هذا النمط هو نادر فإن ما قدمه الشاعر مهدي غلاب يعد مختلف الأبعاد والمضامين ونجده قد عمد إلى تقنين بعض التقنيات اللغوية والتعبيرية، إضافة إلى أن النصوص تأتي مفعمة برسومات وأنساق نصية من الفوق إلى الأسفل وفي شكل هرم مقلوب وهي من أهم سمات التفرد لديه
ديوان: بيلسان ملفت، العنوان مركب نعتي يلفت الانتباه والتقديم كتبه إبراهيم الدرغوتي، والبيلسان: هو نوع من النبات المعمر الذي يستخرج منه البخور والعطور ويستعمل كعلاجات طبية
لذا كتابة الشعر بالنسبة للشاعر المهدي غلاب هي تلبية لنداء وجداني وإعلان عن هوية تحاول إرساء فكر إنساني يتسم بالانسجام والنسق والإبداع في شقيه اللغوي والجمالي وهذا بحد ذاته يشكل همزة وصل ما بين المتلقي والشاعر في استماع سيكولوجي نفسي ما بين الذات الشاعرة والذات المتلقية
اعتمد الشعر العمودي المقفى في زمن بحر النثر الشعري، حيث يعتبر قصيدة النثر هي غير ملتزمة بالتفعيلة وهي نوع من الهروب عن القافية والوزن، له قدرة سجالية على تطويع النص الشعري من حيث التطرق لقضايا ومشكلات الواقع والإيقاع لديه تجد منه الداخلي: والذي يتميز بأنه نغم حسي مضمر عند الإلقاء إذ تجد الفرح والحزن وغيرهما، والخارجي: وهو متعلق بالوزن والقافية ويظهر من خلال جرس للجمل الشعرية في تناسق وتمازج للكلمات المستعملة والملقاة
وقد تحس أن هناك تلاعب لفظي يرسم نصوصه الشعرية كما يرسم اللوحة بالألوان، وأن اللغة المحاكاة تتميز بالبساطة والعمق تحتاج منا أحيانا إلى كشف خباياها عبر البحث عن الشرح في القواميس، وبحكم أنه قاص فهو أيضا يعانق السرد جملة وتفصيلا ويظهر ذلك جليا في نصوصه بسلاسة كبيرة
قصيدة (أذناب الليل الموصول: كورونيات)، ومقصورة العشاق بها بساطة المفردات، وقصيدة مهبط الفرس وهي عن القدس اصطفافا منه لقضايا الأمة، إن تجربة الاغتراب والهجرة أثرت على كتاباته بقوة
ففي قصيدة، قسمة الأسفار تجد فيه التيه النفسي حاضر ومشكل الاندماج، وفي قصيدة، مطمور المتوسط الملآن حيث يتحدث عن الوطن وآلامه، تجَسّد في شعره عمق التجربة الإنسانية وفسحة وتوهان نحو الحوار والجمال بلوني الإمتاع والإبداع تسافر بين جناحيه اللغة والمعاني، مع دفق جمالي متلون ينطلق من الذات إلى أمكنة أخرى حيث هواجس الحلم ومنازل الوجد وأسئلة كالرذاذ تعانق السماء في قصيدة حالات مثلا
وفي قصيدة مجنون ثالجة، محضر الولهان، رحلة الأشعار، تراه ذلك الطائر الذي يدفع بجناحيه إلى الأفق وإلى سماوات تنشد التلاؤم والدهشة والبياض في زخرفة نصية تنشد متعة الانتشاء بعد الإصغاء
وهكذا يتبين لنا أن الشاعر مهدي غلاب يستخدم رابطًا أسلوبيًا يحاور من خلاله عناصر قصيدته ومضمونها بتلقائية وعفوية، فيكون صوت الحرف متناغما مع مشاعره، وذلك في ربط فني يضرب على الوتر الشعوري الدافق والدافئ، ومجسدًا في الوقت نفسه الحالة النفسية التي هو عليها كلما أسهب في بناء القصيدة
جاد الر بيع مثلا بما أنه عاشق للون فالربيع هو من بواعث شعره إذ ينبجس من بين عروق الطبيعة
ويضفي معنىً فلسفيا ورمزيا فلا غرابة فالطبيعة هي التغني بالفطرة الأولى للإنسان لأنها تمثل الصفاء والملاذ الذي يبعده عن كل شوائب الحياة القاسية، وقد تشعر وكأنك في مواكب الكاتب والأديب جبران خليل جبران حيث يرى في الطبيعة منابع البساطة الصافية والتي أضحت ملاذاً أيضا لشاعرنا غلاب إلهاما له ليستمد منه جمالية صوره ومفرداته مبتعدا بذلك عن التصوير المباشر لعناصر الطبيعة
رقصة الأقحوان المنسي، حصون الاركيد، مجانين الصبار، موائد الياسمين كأنها مضادات حيوية يمكن الاستفادة من مفعولها القويّ إذ أن المزج ما بين الطبيعة والثقافة والتاريخ هو من رموز جماليات التعبير والانتشاء الروحي حيث مبعث الحياة والبهجة والسعادة
مليكة بنضهر