مرثية لأخي في عيد ميلاده
مرثية
كالدمعة الحارقة : خاتمة كالبدء
كم انت محزن وكئيب يا شهر شتنبر ، ومليئة هي أيامك بمحطات الوقف والتأمل اللانهائي ، فتتوالى لحظاتك القاتمة جيئة وذهابا في ازدواجية غريبة تجمع بين ثنائية المتناقضات والترانيم الحزينة، وتتركني اعطابها اللامتناهية ممزقا وتغمرني ذرات هواء مشبع بالدمار وبرائحة الموت الجاتم على ربوع الوطن، فأتشظى بين الحضور والغياب الابدي، وحزن وفرح لحظي ودمعة حارقة وابتسامة محتشمة على الدوام ، ومع ذلك تستمر الحياة بكل تلاوينها وتناقضاتها وضرباتها المتتالية والممتدة بين ما هو فردي/ عائلي ، إلى ماهو جماعي / وطني ، فتعود بي الذكرى إلى يوم 15 ديسمبر 2021 حيث لم أعد اتذكر كيف استفقت من غفوتي على صوت المطر العاصف وانا بمدينة ” طنجة ” التي لم يمض على حلولي بها غير يوم واحد، ليصلني الخبر /الفاجعة، والذي صار مع توالي الزمن وشما يدمي القلب والذاكرة ” لقد انتقل رشيد إلى دارالبقاء ” !! نعم انتقل أصغر اخوتي إلى ملاقاة ربه في صمت مطلق، مثقلا بالهموم، والغضب الهادر جراء المرض والوحدة الناجمة عن الحضور/ الغياب ، يرحل دون أن يترك وصيته الأخيرة ، وها أنا استرجع شريط الانتقال إلى العلياء بطمانينة وأمن وأمان وسلام دائم بمناسبة حلول ذكرى ميلاده الذي يصادف 13 شتنبر من كل عام
ايها الفقيد الاعز، هاهي ذكرى ميلادك تحل وانت في حل من كل شيء، تسبح في ملكوت الرحمة والمغفرة تعد النجوم وترعى الغيوم – صحبة كل الغائبين
أخي العزيز، انتقلت للعالم الاخر قبل أن تنهي رسالتك التربوية مع تلامذتك ، اكتفيت بعطاء صادق، وفعل تربوي وازن تحفه اخلاقك الفضلى ، وهو ماجاء في كل الشهادات التي تلقيتها – وما أزال – من رفاق دربك بمختلف تخصصاتهم وتنوع مواقعهم، وهاهي روحك ايها الفقيد الغالي والعنيد تهجر هذا العالم طوعا بعد أن اعياك الحنين إلى الأمل الذي صاحبك خلال دراستك بثانوية مولاي عبد الله بالبيضاء “شعبة العلوم الرياضية ” والانتقال بعدها إلى أوربا للنهل من احواض المعرفة العلمية والرياضية ، بغية ردك لبعض الجميل لابويك – جدد الله عليهما الرحمة والمغفرة – أمام تضحياتهما الجسام رغم بساطة العيش بحي عين الشق .الدار البيضاء ، الذي شهد مولدك وعرف مواعدنا كاسرة “ذكورية” – لعدم وجود أي اخت لنا – مع كل التقلبات والمحطات المختلفة المليئة بالأفراح والشغب والرعونة، فما عساي أخي العزيز أن اتذكر أو اقول وانا استحضر مناسبة ميلادك ، غير أنك كنت تريد وانا – وكل الآخرين – نريد ويبقى ربك وحده قادر على فعل مايريد
فهاهي ذكرى ميلادك تحل وروحك تحلق في ملكوت السموات بعيدا عن كل النازعات المجانية والطوباوية التي كنت تدفع إليها أو تفرض عليك عند عودتك إلى بيتك للراحة والاستعداد ليوم جديد مليء بالمحبة والتضحية والعطاء . وهنا تحضرني وبمرارة متزايدة تلك اللياليى الطويلة والمرهقة، عندما كنت تعود محملا بما لذ وطاب إلى بيتك ، لتصطدم بالكثير من المعيقات المحبوكة والمصنوعة بسبق إصرار، فتركب صهوة غضبك الارعن ، وتطل كصخرة جلمود هادر من فوهة الذي يضل خامدا طوال اليوم – وحتى دون قصد منك – تسمع الآخرين صوتك الهادر زاعما أن الفرق بين الحياة الهادئة والموت الصاخب، هو مجرد لحظة غضب حارق ، فتستشيرني، وأنصحك بشراء راحتك مهما كان الثمن فيكون ردك الأول والأخير ( هاذيك هي لي عمرها غادي تكون ) ، ويشاء القدر أن تبقى صامدا وكأنك الفينق المنبعث من شظايا الاحتراقات اليومية ومن رماد التحمل، وتصرخ عنيدا كثور ملحمة واسطورة جلجامش التي اهديتني مغناة من طرف الفنان عابد عزرية
ايها الفقيد الغالي، لقد زال ثقلك وغابت قدرتك وانتهت مطالبك وتطلعاتك إلى غير رجعة ولم تعد انت لها ولا الى نفسك ولا حتى للاخرين مزعجا ، ومع ذلك فأنت دوما عندي انا ، انت باق ايها السيزيفي العنيد
كالابتسامة المشرقة ، كالدمعة الحارقة، كالغيمة المطيرة ، تعرف وتحس كل شيء وانت سابح في الافق البعيد ، تفتقد الكلام والشعور بالاخرين، وتركب ذاك الصمت العنيد. صور تستحضرها مخيلتي المشروخة المتقدة على الدوام، تذكرني بالنسيم والحنان، والاغتراب المزدوج، ولعمري انها معادلة رياضية ذات مجهولين أو أكثر، قد يعجز الكثير من المهتمين بايجاد حل لها
أخي الأصغر بين الحين والآخر، اجدني مسترجعا شريط الذكريات التي جمعتني بك ، احاول ترتيب صورها ولحظاتها بشقيها القريب والبعيد، ومحطاتها المتداخلة والمتقاطعة، وما اكاد انتهي حتى ينفلت مني كل شيء وكأنه فقاعات صابون تنزلق من بين أصابعي، وتتزلزل الذكريات وكأنها بقايا القصور الرملية التي كنا نلهو بها ومعها في مخيماتنا الشاطئية منذ كنا اطفالا
أخي العزيز، ماعساني انا قائل في ذكرى ميلادك؟ انها ذكريات مؤلمة وحارقة، نازفة تحضرني وتشدني اليك من خلالها، فاسترجعها بمرارة لامتناهية وتتجدد على الدوام، فأحس من خلالها وكأنك تقول: لايكفي أن تكون لي أخا اكبر أو وصيا علي – وما انا بذلك ولا كنته ابدا- حتى تسترجعها في غيابي القهري، وأقول مع نفسي فأنت ايها الفقيد العزيز والاعز لم تعد موجودا حتى استشيرك أو أخذ رأيك في هذا الاسترجاع بعد أن رحلت ، فأصبحت ذكرياتك مشاعا لنا- انا وأخويك – لاننا قاسمناك اما القليل أو الكثير من لحظاتها النازفة دما ودموعا، تبعا لظروف كل منا ، وبغيابك هذا تكون قد فقدت قدرتك على التحكم فيها ، وضاعت منك فرصة الحق في التدخل أو التاثير في شؤون الأخرين، فأصبح لهؤلاء وحدهم كامل الحق في إقرار أو تقرير مايبدو لهم منطقيا ومنسجما مع حدود اللياقة ومبادىء الأخوة الصادقة والقيم النبيلة وآداب الحكي الذي يستحضر حفظ الكرامة وصونها اولا واخيرا
ايها الفقيد الاعز لقد غادرتنا مثقلا بالامك وهمومك ووحيدا لتحلق في العليا بطمأنينة تحفك ملائكة الرحمان، وستبقى ذكرى مولدك وذكرى انتقالك إلى مغفرة ربك موشومتان بمداد المحبة والمعزة في القلب والذاكرة
أخي وصديقي وابني تنتابني لحظات من الصمت الموجع، فتدمع عيناي وابتسم بألم وفي قلبي صوت يصرخ ويتذكر تلاوين حياتك وأقول فانك حتى وان غبت عن عيني، فأنا متأكد أن هناك عين في القلب ، لازالت تراك في انتظار يوم التلاقي
هذه مقتطفات من تهنئة عيد ميلاد أخي الأصغر المسمى قيد حياته ” عنقا الادريسي رشيد ” بعد أن رحل عنا بشكل فجائي في 13 شتنبر2021
الأستاذ المختار عنقا الادريسي