نوستالجيا
نوستالجيا
هذا بيتنا بحي القصبة العتيق، وقد استقرت به الأسرة مباشرة بعد إقامتها ب “حومة فنزويلا” بالمصلى وقبله بمرتفع “جامع المقراع” بالجبل الكبير..
وفي هذا البيت الجميل المطل بكبرياء على شاطيء “بوقنادل” وميناء طنجة، خضعتُ لعملية الإعذار بالمستشفى الإنجليزي سنة 1953، حيث حملني أحد أبناء عمِّ والدي(محمد بنيحيى) إلى هذا المستشفى الكائن قرب ملعب كرة القدم بمرشان، وما زلت أسترجع في ذاكرتي تفاصيل صور هذه المحطة الفاصلة من مرحلة طفولتي المبكرة وأنا لم أكمل بعد عامي الثالث..أرى الأنفَ الكبير لابن عم الوالد وهو ينزل على وجهي لتطبع شفتاه المكتنزتان قبلة على خدي بعد سريان التخدير في جسدي..وأراني محمولا على دراعيه لتقلنا سيارة “سِيتْروِين” سوداء إلى بيتنا عند بداية المنحدر إلى “الزنقة الطّْويلة” و”باب البحر” ..وأراني في حضن الوالدة وهي تضمني إلى صدرها وتقبِّل خدي قبلات ممزوجة بالدمع..وأسمع زغاريد أخواتي فاطمة والبتول وأمينة..بينما كنت متشغلا ب “شَيْئِي” الصغير الذي يؤلمني..وأراني في اليوم التالي على دراع أختي فاطمة قبيل ظهر الجمعة وهي تتوجه بي إلى الوالد الذي كان “جْلَّاساً” بِ “حَمَّام فرانكو” بحي دار البارود لنعبُرَ “الزنقة الطويلة و “باب حاحا” وسط حشد من العسكر الدولي الذي كان ينظم طقوس نزول المندوب السلطاني لأداء صلاة الجمعة بمسجد القصبة..ثم ننحدر إلى ساحة “أَمْراح”و “العقبة الوزانية” في اتجاه الحمَّام حيث استقبلني الوالد بابتسامة فرح غامض..لعلَّ هذا الغموض المشوب بحياء كان له صلة بعضوي الصغير المغتصب..وأرى الوالد وهو ينفحني بورقة نقدية صغيرة(بْسِّيطَة سبانيول) سرعان ما انتشلتها مني أختي ودسَّتها في ثنايا صدرها ونحن نتوجه عائدين إلى البيت أمام فضول أفراد العسكر الدول بسحناتهم البيضاء وعيونهم الزرقاء..
وفي هذا البيت كم تمنيت لو أن القدر أتاح لي فرصة استرجاع صورة جدي الشيخ العربي بن العربي بوعياد الطنجي المتوفى سنة 1952، رفيق وأقرب مريدي الشيخ محمد بن الصدِّيق الغماري مؤسس الزاوية الصديقية الدرقاوية، وهو الذي اختار لي إسم عبد اللطيف حين زار الوالدة ليطمئن على صحتها بعد الوضع..وكانت طنجة تعرف يومها تهاطل أمطار طوفانية غزيرة كادت تُغرق المدينة..بينما الناس في المساجد والأحياء يسألون الله اللطف ب “عباده وبَهيمته”..
وفي هذا البيت، كان يجاورنا بيت العالم الشيخ محمد الزمزمي بن الصديق..وقضيتُ به طفولة بهية مع نجله سيدي “أُبَيّْ” بارك الله في عمره و الذي لم يكن يكبرني إلا بسنة أو سنتين..وكذا بيت العالم الأديب عبد الله كنون وبيت عائلة مَخَّادو وبُرج القصبة حيث كانت الجمعية الخيرية الإسلامية تقوم يوميا بتوزيع الحساء والجُبن الهولندي والخبز على أفواج الفقراء الذين كانوا يتقاطرون بأسمالهم المرَقَّعة البالية بكثافة ونظام وانتظام على هذا المقر..
عبد اللطيف بنيحيى
31/ يناير 2023
“للحديث بقية”