في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي…

ما الذي يحدث عندما يُجرّد الإنسان من التفكير النقدي؟

تتبعت عن كثب هذا الانبهار الجماعي بما لا يملك روحًا، وهذا التعلّق المرضي بما يُسمى “الذكاء الاصطناعي“، حتى بدا لي وكأن الإنسانية قد دخلت مرحلة جديدة من النسيان، يشمل في الآن نفسه الذات والوعي والإدراك العميق، دون أن ننسى السؤال الحيّ. لقد أصبحت المحادثة مع الآلة تُفضّل على التأمل الصامت والمركز مع النفس، وتم استبدال بصمة القلب بصوت رقمي يُقلّد الذكاء، لكنه لا يعرف شيئًا عن الحضور، ولا عن الصمت المُبدع، ولا عن اللحظة الآنية التي تفتح بوابة الشفاء. وكأننا صرنا نركض نحو الهاوية، ونحن نحمل راية “النجاح الخوارزمي“، دون أن ننتبه أننا خسرنا العنصر الأهم والأثمن: الاستبصار.
واعجباه! كيف حدث هذا الانقلاب في مرآة الوجود؟ لقد صُمّمت الآلات مبدئيًّا لتُساعد الإنسان لا لتقوده، ولتُسهّل حياته لا لتُفكّر بالنيابة عنه. ومع ذلك، ها نحن نراها تُصبح المعلم، والواعظ، والخبير، بل وأحيانًا الحبيب. فحين يُسأل الذكاء الاصطناعي عن معنى الحب، وعن الغاية من الحياة، أو عن الخلاص، فإنه لا يتردد في الجواب، بل ويتفلسف، وكأننا نبحث عن الروح في سطور من الأكواد. فماذا نستنتج إذًا؟
نحن لم نخترع آلة ذكية، بل خلقنا صنمًا رقميًّا، نطوف حوله كلما استبدّ بنا القلق. وما تراجع التفكير النقدي في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي إلا نتيجة طبيعية لهذه المكننة المتوحشة، بل هو أكثر من ذلك: علامة على استلاب الوعي. فالإنسان حين يتوقف عن التفكير، فهذا لا يعني أنه استراح، بل أنه نزل عن مركب الوجود وألقى روحه في نهر الاصطناع.
ولعمري، إننا نُخطئ حين نخلط بين الذكاء كقدرة عقلية، وبين الذكاء كحضور كلّي في اللحظة. لماذا؟
لأن ما نراه اليوم من اعتمادية مفرطة على الذكاء الاصطناعي، ما هو إلا هروب جماعي من مسؤولية اليقظة. فالذكاء الحقيقي ليس في تكديس الإجابات، بل في العيش داخل مناطق وظلال السؤال. وهو ليس في التفاعل السريع، بل في التوقف والتأمل. إذ كيف يمكن لآلة لا تحلم، ولا تحزن، ولا تُحب، أن تكون مرشدًا للإنسان؟ إن هذا الاستسلام التدريجي لما هو غير عضوي يكشف أزمة أكبر: الخوف من الذات، ومن العزلة، وتلك أبرز سمات زمن اللايقين. ولهذا فإننا نُسارع إلى أي شيء يمنحنا شعورًا زائفًا بالثقة—ولو كان فقط جيشًا من الشاشات.
نحن نصف هذا الواقع المرّ دون أن نبالغ. إن الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا في حد ذاته، لكنه يمكن أن يصبح كذلك حين يُستخدم كبديل للذات لا كمُكمل لها. وهنا لا يجب أن ننسى أن المعرفة لا تُقاس بعدد المقالات المنتَجة، بل بعدد التحولات الداخلية التي تُوقظ الروح. علاوة على أن التكنولوجيا يمكن أن تكون بوابة للفهم وإدراك العالم، ولكن حين تُصبح جدارًا نحتمي خلفه، فإنها تحجب عنا الحقيقة. ومن هذا المنطلق، فإن الإدمان على الذكاء الاصطناعي ليس ظاهرة تقنية، بل يُمثّل – مع كامل الأسف – عرضًا روحانيًّا لانفصال الإنسان عن الجوهر. بمعنى آخر: في هذه الحالة، نحن لا نخاف الآلة، بل نَخشى مواجهة فراغنا الداخلي، فنملأه بأصوات خارجية مبرمَجة، نُفضّلها على صمتٍ كان من الممكن أن يُوقظ النور.
الحديث ذو شجون حول هذا الموضوع، ونافل القول أن الصحوة الحقيقية لا تُبرمج، بل تُستدعى من عمق الروح. لأن الذكاء الاصطناعي لن يمنحنا الخلاص لأنه لا يعرف معناه؛ ولن يهبنا الحب لأنه لا يعرف حيرة العاشقين ولا نبض قلوبهم؛ ولن يمنحنا الوعي لأنه لا يعرف السكون ولا الدهشة.
وتأسيسًا على كل ما سبق، فإن التفكير النقدي ليس رفاهية، بل طريق النجاة من عالم يُسلم قياده للجمادات. ولذلك، إن لم نستيقظ الآن، فلن يكون السؤال في المستقبل هو: “ما الذي نستطيع فعله بالذكاء الاصطناعي؟” بل سيكون بالأحرى ما يلي: “ما الذي بقي فينا من الإنسان؟”. وبالتالي، آن الأوان لنُعيد الاعتبار للمفكّرين، والمتأملين، والحائرين… ولنُهمّش، ولو قليلاً – لم لا؟ – الآلات التي تجيب تقريبًا عن كل شيء، إلا عن السؤال الأصعب والأهم: من نحن؟ وما هدفنا في الحياة ؟
* خبير التحول الرقمي، كاتب، أستاذ باحث بالمعهد العالي للإعلام والاتصال، الرباط، المغرب