إلى روح أنوار حكيم.. الصوت والذاكرة


ذكريات جميلة تبعث من ذاكرة صديق العمر…
وأنا اقلب في اوراقي الفنية القديمة إذا بيدي تقع على قصيدة اثيرة لدي، سرعان ما تداعى شريطها الغنائي بداخلي (هو حبيب الله – هو عظيم الجاه – صلى عليه الله – فصباحو ومساه – الله محبتو عطاه – وفرش طريقو بالنور – وكرمو بالقرآن وبغاه – يكون مع اسم الله مذكور – وفضلو بالشفاعة وعطاه – أحسن أمة في المعمور… 1*) الله الله ما أجمل هذا الغناء ! وما أعذب هذا الصوت ! ، فدع لي – أيها الراحل – صوتك يسكب رحيق النشوة في مسمعي، ودع باب التاريخ مفتوحا لتروي ظمأ السائلين ، بصوتك الرنان خططت مسارك الغنائي، وتطل قطوف دانيات من وجداني (قل لي كنبغيك) و(دابا تدور ليام) لتؤكد انك كنت عملة نادرة في زمن العبث والميوعة والامية الفنية وبصوتك خططت مسارك الإعلامي لتنسج من رحاب النغم والثقافة برامج وبرامج (روائع النغم – موسيقى الشعوب – أضواء المدينة – موعد – رحلة مع النغم – قطوف دانية – شذى الفجر – أمسيات شذى – نوسطالجيا – حديث الروح – اللقاء الفني – رحلة مع المبدعين – أهلا بكم – جسور وزهور – أصوات من الماضي ….)، ولصوتك الذي لا تخطئه الاذن. نودي عليك لتقديم الحفلات والسهرات وكم تمنيت ان يستثمر صوتك الساحر الجذاب والذي ميز إذاعة البيضاء زمنا ،
ان يستثمر في البرامج الكبرى والشهيرة إذاعيا وتلفزيونيا كما حدث مع القناة السادسة ذات رمضان لما سجلت معها برنامجا دينيا حول أسماء الله الحسنى، الوثائقيات مثلا أو القراءات الشعرية هنا وهناك. ألم يكن صوتك الأجدر بقراءتها كما حدث في مصر مع الممثل محمود ياسين ومع محمد الطوخي قبله ؟
كنت قلما يخط المقالات الصحفية، ويخط الشعر والقصة، ويؤلف كتابا عن الرائد احمد البيضاوي تحت عنوان (النغم الخالد)، كيف لا وقد تربى دوقك الفني على اغانيه وتتلمذت لغتك على قصائده حتى صار لك نموذجا تفاخر به الدنيا وتشدو بإبداعاته في الجلسات والسهرات الخاصة، وما بين الغناء والإعلام كانت الكلمة الجميلة المهذبة شعارا ملازما لك فكنت نقطة ضوء مشعة وسط الابتذال والتفاهة والإسفاف. (فين ايامك الناعورة / كانت فيك أجمل صورة / حالمة تايهة مغرورة /…فين أيام زمان / اللي كان ليك فيها شان / واليوم أصبحت مغمورة … 2*)
يا للزمن كيف طوى السنين ، صديقين كنا وحدهما العشق، فلكل لقاء نكهة، ولكل جلسة طعم، وحده فلك الأغنية المغربية كان يسبح فيه حديثنا، وصلك عشقي وحماسي الشديد لتوثيق أغنيتنا المغربية فلم يكن صدرك يضيق بكثرة أسئلتي ، وشجعتني على المضي قدما في طريق التوثيق، وينساب منك الحكي وقد طاب اللقاء…
فها انت تصحب عبد السلام عامر وهو مترفق بساعديك وأنتما تمشيان مسافة طويلة من نهاية الحافلة رقم 6 بسيدي معروف إلى عين الشق كما شهد بذلك عاشق المثقفين والفنانين هابيل سهلال، تفاصيل كثيرة قد عرفتها منك، إحساسك بالمرارة والحسرة وقصيدة الشاعر نزار قباني (لا تحبيني) والتي لحنها لك عبد الرحيم السقاط تسرق أمام ناظريك ليغنيها في النهاية عبد المنعم الجامعي، أتذكر جيدا يوم دعيت للمشاركة في لجنة التحكيم بمهرجان القاهرة الدولي لسنة 2003، دعوتني لمرافقتك ولكنني اعتذرت لكثرة انشغالاتي والتزاماتي، وعدت تحدث عن حفاوة الاستقبال هناك وعن حضورك المتميز إلى جانب أسماء وازنة مثل حلمي بكر…
ويوم قررت إصدار مؤلف عن الفنان عبد النبي الجراري كنت أول من جالسته باعتبار أنك خريج برنامجه (مواهب) وحلا لي حديثك عن البدايات مع الجراري وأنت تحظى بألحانه، مؤكدا لي أنك غنيت قبل الاتصال بالجراري أغنيتين لأسماء غير معروفة على مستوى الكتابة واللحن معا، وقد لا يعرف الكثيرون أن الجراري انتقل ببرنامجه مواهب من الرباط إلى إذاعة عين الشق بالبيضاء وكنت أنت من رتب هذا الانتقال بل واشتغلت معه في إعداد الفقرات فثارت حفيظة الحاقدين والحساد وهم يرون احتضانك من قبل الجراري، كيف لهذا البرعم الصغير أن يسرق منا ذاك الهرم الشامخ ؟ شاعت حلاوة صوتك عند كبار الملحنين، هذا عبد القادر الراشدي يدعوك للمشاركة في غناء موشح (سقاني من هويت خمرا) وهذا محمد بن عبد السلام يهديك (الناعورة) وعبد الرحيم السقاط والمعطي البيضاوي وإبراهيم العلمي، ولاحت آنذاك في الآفاق مشاريع وازنة وواعدة، ولكن مكر الخبثاء كان لها بالمرصاد، إلا أن القدر الإلهي هيأ لك فرصة الانتقال إلى الإعلام، وفيه وظفت مخزونك الثقافي المعرفي وذوقك الفني فكان منك الإبداع وكان لك التتويج، سعت إليك يا صاحبي الجوائز والشهادات، ومشت إليك حفلات التكريم من هنا وهناك، من الإذاعة الوطنية، إذاعة البيضاء، إذاعة طنجة، وزارة الثقافة…..كم كنا ضيوفا على بعضنا البعض، استضفتني أكثر من مرة، في برنامج (جسور وزهور) بإذاعة عين الشق، وفي برنامج (الليل والنجوم) من خلال حلقات خاصة بمبدعينا الكبار أمثال عبد النبي الجراري وعبد السلام عامر وعمر الطنطاوي، واستضفتك أنا أيضا بثانوية المصلى التأهيلية في لقائين الأول كان عبارة عن لقاء مفتوح مع التلاميذ حول واقع الأغنية المغربية، والثاني كان لتكريمك ويومها غنيت على عودك وصحبة التلاميذ (سولت عليك العود والناي) وأنا لا أنسى اشتراكنا معا في حلقة خاصة بالموسيقار احمد البيضاوي في إطار برنامج (الرواد) للقناة الأولى، ولا أنسى أبدا ثناءك الغزير على مداخلاتي فيه.
ذكريات عبرت بيني وبينك امتدت فيها صداقتنا أربعين سنة، تشهد عليها فضاءات عديدة جمعتنا ، وصور التقطناها سويا وأخرى من مشوارك الفني وإهداءات توصلت بها منك، وداخل خزانتي أيضا أغانيك المخطوطة بيدك، ورسائلك المتبادلة مع الجراري، ولكن ما يحز في القلب اننا لم نلتق في السنوات الأربع الأخيرة، نأى بك المكان أنت، وشاغلتني أنا الحياة، ولكنك كنت في القلب يا صاحبي، فدع لي صوتك – أيها المستعجل – يسكب رحيق النشوة في مسمعي، ولنغن معك وفلسطين الحبيبة تئن من الجراح، لنغن بصوتك الطروب ونجهر بدا الدعاء الذي كتبه الشاعر غربي محمد ولحنه لك الجراري :
يارب أمـــتك المثـــلى دعتك ومــا سواك ندعو لتفريج من الكــــرب
باركت قبــــلتها الأولى ومـــقدسها فاهزم بها دولة القرصان تنسحب
خلص فلسطين ياربي بفضــلك من عدوها الــمدعي بالزور والكـــذب
هوامش :
1*من أغنية ( رسول الخيرات) شعر المهدي زريوح – ألحان عبد النبي الجراري
2*من أغنية ( الناعورة ) كلمات مولاي المهدي بنيوسف – ألحان محمد بن عبد السلام