ورقة عن مسلسل “معاوية”

ولا زالت عورة ابن العاص تقبح وجه التاريخ
أحمد سهوات
ملاحظة أولية:
نحن لانقدس الماضي لكننا نقرأه ونعيشه بوعي دون تمجيد أو تبخيس .
لقد تزايدت التعاليق والانتقادات الموجهة للمسلسل التارخي معاوية، خاصة لذى الاخوة المشارقة وهو مسلسل مصري ناطق باللغة العربية ، يعرض في العديد من القنوات العربية … ومن خلال تتبعي لبعض ما كتب اتضح لي ان الأمر لا ينحصر في تعاليق حول مسلسل تاريخي ، يعرض ضمن برامج الدراما الرمضانية بل يتعدى ذلك ليعبر عن واقع عربي إسلامي لازال يتخبط في صراعات كانت لها أسبابها الموضوعية في زمانها ومكانها مند 15 قرنا ، صراعات قبلية أو أسرية تحولت إلى صراعات سياسية ومذهبية طغت على الجزء الأكبر من التاريخ الإسلامي وغيرت مقاصد العقيدة ، ولتوضيح هذه الفكرة ، جاءت الورقة ليس دفاعا عن المسلسل ولا عن شخصية معاوية ، ولكن لأبرز وجهة نظر خاصة حول أسباب الإهتمام بالنقد الموجه لمسلسل معاوية ولمعاوية نفسه ، خاصة وأن الموقف من المسلسل لم يقف عند حدود النقد بل وصل إلى حد توقيفه في بعض البلدان العربية وفي الغالب لادعتبارات طائفية (لماذا طائفية ؟)، الملاحظ أن الانتقادات في ظاهرها لا تخرج عن نطاق الانتقادات المعهودة، لمثل هذه الأعمال التي تسمى تاريخية – رغم ما تتطلبه من جهد ومن تكلفة مالية -، ويبقى في باطنها أمر سنحاول الكشف عن بعضه.
نبدأ بمسألتين اثنتين أساسيتين يتمحور حولهما النقاش ، وهما:
الأولى : تلك النظرة التي تخلط دائما بين العمل الفني الإبداعي والكتابة التاريخية ، فينصب النقد حين مشاهدة مسلسل أو فيلم يستمد أحداثه من التاريخ ، حول مدى التزام المخرج بحقيقة الحدث التاريخي ، دون تمييز بين عمل المؤرخ الذي يكتب التاريخ وفق منهج دقيق يهدف إلى البحث عن الحقيقة التاريخية أي حقيقة ما جرى في الماضي وتوثيقه…وبين عمل المخرج السينمائي أو التلفزيوني الذي يأخذ فكرة من التاريخ ثم يطورها إلى عمل فرجوي يحكمه قانون الفرجة وشروط العمل الفني، ولا يمكن مؤاخذة المخرج لعدم التزامه الحرفي بحقيقة الحدث التاريخي، لأنه ليس مؤرخا ولكنه أخذ فكرة من التاريخ وأخضعها لمقومات إبداعية تهدف المتعة والاثارة والتشويق مع اعتبار رؤية المخرج الجمالية والفنية وخلفياته الفكرية والثقافية،دون التزام بالصرامة والموضوعية التي يتطلبها المنهج المتبع من طرف المؤرخ… لذلك قلت بأن المخرج ليس مؤرخا ولا ساردا لأحداث التاريخ، مع العلم أن ما تسجله كاميرا المخرج يصبح وثيقة شاهدة على لحظة محددة، وحتى فيما يعرف بالأفلام الوثائقية فإنه لا يمكن استبعاد ميولات المخرج الفكرية أو الأيديولوجية، وهذه مواضيع طالما طرحت للنقاش خلال فترات سابقة.
الثانية :شخصيا أعتقدها سبب الانتقادات الموجه لمسلسل معاوية، إذ تتعلق بشخصية معاوية وكيفية تقديمها للمشاهد العربي الذي يخزن مواقف متناقضة ومبهمة حول شخصية معاوية بن أبي سفيان، وهي فعلا شخصية أثارت الكثير من الجدل حتى لدى المؤرخين والباحثين في تاريخ صدرالاسلام والدولة الأموية، وذلك لعدة أسباب أعتبرها أيضا عاملا من العوامل التي أثارت النقاش والإنتقادات ضد مسلسل معاوية، فهذا الرجل كما يعرفه الجميع ينتمي إلى بيت بني أمية وهو من أكابر البيوتات القرشية أو الارستوقراطية المكية إن صح التعبير مقابل البيت الهاشمي الأقل مكانة، وانقلبت موازين الوجاهة في المنطقة بظهور النبوة من البيت الهاشمي، ومع ذلك فقد ظلت دار ابي سفيان تحتفظ بمكانتها ووجاهتها حتى بعد نجاح الدعوة المحمدية والعودة إلى فتح مكة حيث جعل الرسول دار أبى سفيان دار أمان ومن دخلها فهو أمن …وقد ورد في كتب التاريخ أيضا أن انتشار الديانة الإسلامية قلب الخريطة الإجتماعية والإقتصادية لبعض الأسر القرشية وأصبح للبيت الهاشمي مكانة مرموقة بسبب الإنتماء لبيت النبوة، وما راكموه من ثروات نتيجة الغنائم المتحصلة من الفتوحات وكان لبني هاشم النصيب الكبر منها ، لدرجة أن توقف الفتوحات على عهد الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه قد جلب عليه كثرة المشاكل والصعوبات انتهت بمحاصرته في بيته واغتياله سنة 35 للهجرة، اذ عظمت الفتنة ضده خصوصا بعد ترجيحه لكفة آل البيت الأموي الذي كان ينتمي إليه ، وتعيينه لعمال وولاة من بني أمية بدل الذين تم تعيينهم في عهد سلفه من بني هاشم لينطلق الصراع وتعم الفتنة والإقتتال بين المسلمين ، وحسب المصادر التاريخية فقد ترتب عن عن الفتنة الكبرى عدة نتائج : منها مقتل عثمان في مرحلة أولى ثم مقتل علي بن أبي طالب فيمابعد ، ليستتب الأمر لمعاوية بن أبى سفيان بعد قصة التحكيم التي كان أحد مهندسيها الأقوياء عمرو بن العاص المساعد الأكبر لمعاوية والمعارض لعلي كما ترتب عن الفتنة ظهور مذاهب وتيارات سياسية متصارعة ، الخوارج والسبئية … والأهم من ذلك أنها وضعت حدا لفترة الخلافة الراشدية وابتدأ عهد جديد من تاريخ الإسلام بقيادة معاوية، فمن الطبيعي أن يثير عرض مسلسل حول شخصية معاوية الكثير من الجدل، والحقيقة أنها شخصيةمثيرة للجدل رغم أن الخلافات المذهبية التي لازالت قائمة و عملت على طمسها وتقزيم دورها في إقامة الدولة الإسلامية وتطورها، بل حتى اسم معاوية في العالم الإسلامي نجده قليلا أو منعدما إذ يسمي الناس أبنائهم الزبير وعمر وعمرو، كما يأخذون إسم علي وحمزة وسفيان …. لكن إسم معاوية وابنه يزيد تم طمسهما ويظهر أن مخرج المسلسل كان واعيا بذلك كما أن منتقدي المسلسل لهم نفس الوعي (اللي في راس الجمل، في راس الجمالة) – كما يقول المغاربة – فمعاوية هو أول من أسس دولة إسلامية بالمعنى الكامل لمفهوم الدولة والاختلاف حوله ليس وليد عرض مسلسل، إذ أن المؤرخين المعاصرين لفترته أنفسهم كانوا على إختلاف فيما كتبوه أو نقلوه عنه …. وغالبا ما يرجع سبب الإختلاف إلى الانتماءات القبلية أو المذهبية …
ويظهر فعلا أن معاوية بعد أن استتب له أمر الدولة سنة 41 للهجرة، كان عليه أن يواجه خطرين كبيرين، هما :
الخوارج والشيعة ، وقد كان الخوارج أكثر وضوحا وأشد قوة وبأسا بحكم طبيعتهم البدوية التي تجعلهم أكثر ميلا إلى الحروب مع رفضهم لكل رأي مخالف مما جعل معاوية يحاربهم بنفس الشدة إلى أن خفف من حدة ثوراتهم ، أما الخطر الثاني المتمثل بالشيعة ، فقد كانت تحركاتهم تراعي اقتناص الفرص وموازين القوة ، كما أنهم ميالون للسرية والتقية عكس الخوارج ، فكان على معاوية أن يدس الجواسيس في كل مكان لمعرفة أخبارهم وتتبع آثارهم مستعملا القوة وعدم الرأفةبهم إلى أن تمكن من إخماد حركاتهم ولو لمدة ، ولجأوا إلى التقية والعمل السري للاستمرار في نشر دعوتهم ، مما جعل بعض الباحثين يعتبر حركتهم من أقوى الحركات السرية في الإسلام وأكثرها انتشارا بسبب أساليب تنظيمهم واعتمادهم التقية وتحين الفرص …ورغم الإقتتال بين المسلمين وتعدد الأخطار الداخلية التي واجهت معاوية ، فقد استطاع تأسيس الدولة الإسلامية بالمعنى الذي عرفته الدولة عند البيزنطيين والفرس يقول المؤرخ اليعقوبي في تاريخه ج 2 ص 234 وكان اليعقوبي معروفا بانتمائه الشيعي أو متهما بذلك ، يقول : ( وكان معاوية أول من أقام الحرس والشرطة والبوابين في الإسلام ، وأرخى الستور واستكتب النصارى ومشي بين يديه بالحراب ، وأخد الزكاة من الأعطية وجلس على السرير والناس تحته وجعل ديوان الخاتم ، وبنى وشيد البناء وسخر الناس في بناءه (….) وكان سعيد بن المسيب يقول ،فعل الله بمعاوية وفعل ، فإنه أول من أعاد هذا الأمر ملكا ) ، هذا بعض مما نقله عنه اليعقوبي الذي صنف من الشيعة وقد كتب المسعودي صفحات طويلة في وصف حياة معاوية وحرصه على استقبال الناس والاستماع إلى تظلماتهم …كما أكثر المسعودي في ذكر خصال معاوية وتدينه ومرونته في التعامل مع مختلف القضايا …لدرجة أنه يفضله على كافة من جاء بعده حين يقول ( وقد كان هم بأخلاقه جماعة بعده مثل عبد الملك بن مروان وغيره فلم يذركوا حٍلمه ،ولا إتقانه للسياسة ولا التأني للأمور ، ولا مداراته للناس ورفقه بهم على طبقاتهم ) انتهى كلام المسعودي ، من مروج الذهب ج 3 ص 39 وقد نعث المسعودي كذلك بالمتعاطف مع الشيعة لاطنابه في ذكر محاسن معاوية .
وإذا كان الأمر هكذا فإن موضوع النقد الموجه للمسلسل التلفزيوني لم يخرج عن القاعدة وإلا لماذا تم توقيفه في العراق وغيرها ؟
وقد قال أحدهم أن لغته العربية مليئة بالأخطاء واتجه اخر الى القدف والتنقيص من شخص المخرج ، بينما ذهب آخر الى الحديث عن القيمة المالية التي ضاعت … ولم يتحدث أي كان عن الجوانب الفنية والمجهودات التقنية والجمالية للمسلسل …
وأنا – شخصيا – لا أحبد مثل هذه الأعمال التاريخية لما تتطلبه من إمكانيات ولما قد تحمله من إشارات قد تسيء لطرف من المشاهدين الذين يحملون قداسة للماضي تفوق كل تقديس..
ومع ذلك يمكن تناول شخصية تاريخية نظرا للدور الذي أدته في مرحلة معينة دون تضخيم أو تمجيد أو تبخيس، خاصة حين يتعلق الأمر بشخصية كان لها دورا في ظهور الطوائف، التي مازالت تتناحر اليوم فيما بينها … ومع ذلك فالمسلسل لم يبعد الأنظار عن الواقع المعيش عند المواطن العربي اليوم ، لكنه في اعتقادي جاء ليعبر عن طبيعة هذا الواقع الذي مازال يعاني من الانقسام والخصومات الطائفية التي لاتخدم سوى مصالح الهيمنة الامبريالية بمختلف تلاوينها وأساليبها . ورحم الله الشاعر “مظفر النواب ” حين قال : ( ولا زالت عورة ابن العاص تقبح وجه التاريخ ) . وللحديث بقية…