قصة للأستاذ محمد ياسين خليل القطعاني

عندما تصادق الكلاب!
محمد ياسين خليل القطعاني
قبيل غروب الشمس من شرفة منزلي أشاهده حين يهرب الشفق إلى الأفق المنبسط الممتد خلف (عُشته) الخشبية، يتناول عقود (الفل) من يد الطفلة التي توافيه بها كل يوم، فيسلك هذه العقود في ساعده الأيسر، ويُسرع إلى إشارة المرور وهو يتوقى الهواء القارص الذي يلفح وجهه بكف يده، يدعك عينيه مرات بأنامله، يستمر في سعيه حثيثاً مخافةَ السطو على مكان رزقه من رفاق المهنة.
في طريقه الذي لا يبعُد سوى خطوات قليلة يتضوع المكان برائحة ورد (الفل)، فيعبقه بأريجه، تلمع ابتسامتُه التي لا تفارق محياه، ولا يعلم أحدٌ كُنه هذه الابتسامة الملازمة لشفتيه:
– أهي ابتسامة فطرية ؟
– أم ابتسامة يرسمها ؛لأنها رسوله لقلوب الزبائن؛ كي يبيعهم عقود الفل الفواحة …الندية …البيضاء ؟
الأرض أنبتته فجأةً في هذا المكان، لمحتُهُ أول مرة وهو يلتقط بعضَ الأخشاب المهترئة وقطعَ الصفيح الصدئة؛ ليصنع لنفسه(عُشةً) بجوار سور المدرسة التي أقطن أمامها، أنجزها وحده في همة ودأبٍ وإن كانت لا تتجاوز طوله وعرض جسمه النحيل.
كلما أضاف إليها قطعة من الخشب أو الصفيح ارتدّ إلى الخلف وتأملها، فتلتقط عيناه بعض الخلل، فيرتقه بقطع أخرى، ظل على هذه الحال حتى رضي عما صنعت يداه، فاتسعتْ ابتسامته.
كل مَنْ يمر خارج (عُشته) يرى ما بداخلها لاتساع الفجوات بين كل قطعة خشب وأختها، وكل صفيحة ولِداتها حتى يظن أن هذه الفجوات بين الأخشاب من صنع صانع.
هو في العاشرة من عمره، أقام (عُشته) في هذا المَكَب المُوحش الذي اتخذته الكلابُ الضالة ملجأ لها، ويغص بركام من الأتربة… والأحجار ومخلفات البناء… ومخلفات البشر حيث يقضون فيه حاجاتهم بحكم الغريزة وانحراف الشهوة.
كل يوم قُبيل الغروب ينسل من (غرفته) كما يسميها؛ ليستقبل طفلة الفل التي لا يَعرف لها والدين قاصديْن إشارة المرور حيث يبيع عقود الفل على قائدي السيارات، يطل عليهم من نوافذها حين تجبرهم الإشارة الحمراء على التوقف.
كفراشةٍ يتقافز بين السيارات بقدمين ضامرتين حافيتين، تركت البرودة والحرارة آثاراً زرقاء على أصابعهما، باسطاً يده بعقود (الفل) مُثنياً على قائد السيارة لذوقه الرفيع… وكرمه … وطيب نفسه… مادحاً الفل بعبارات الأغاني التي يجيد تلاوتها، فلا يجد قائد السيارة مناصاً من الشراء رحمةً به… وشفقة على سنه … وإعجاباً بابتسامته الصافية.
الطفلة تدعه خلفها بعد أن ألقمته نصيبه من عقود (الفل)، وتوالي النظر إليه نظرات مُشبعةً بالحماية … وبالإحساسِ بالهوان …والانكسار، وتفر إلى إشارة المرور في الشارع الموازي له حيث تبيع نصيبها هناك.
يعود إلى عشته ليلاً بعد بيع ما كُلف بيعه، وهو آيبٌ إليها تلتقط أذني ما يترنمه بصوت مُنغمٌ…عذب وإن كنتُ لا أعي الكلمات التي يترنم بها، ويطوح بيديه في الهواء ويقفز هنا…وهناك، ولا تزال الابتسامة لا تفارقه.
أصدقاؤه الكلاب يكونون في انتظاره بهمهمات ونُباحٍ خفيض مصحوب بهز الذيول …ومداعبة قدميه… والقفز على ظهره، يربت على كتف هذا، ويمسح ظهر آخر… ويقهقه في عيون ثالث، فتصحبه الكلاب حتى عشته مُحتفين بعودته.
كسا الدجى بظلامه المخيف أطرافَ هذا المكب عدا عُشته التي يُنيرها سراجٌ عتيق كان قد عثر عليه وسط الركام، فأصلحَ ما فَسِد فيه بأنامله الرفيعة، فيتسلل نور ذُبالة السراج هارباً من فتحاتها صانعاً خيوطاً مُلتويةً ومُتقاطعة من الأشكال على الأرض حولها.
عقب ساعات من غروب الشمس تعرج إليه الطفلة؛ لتقتنص منه حصيلة البيع مُسرعة بها إلى صاحب (مشتل) الورود مخافة العقاب كما كان منه من قبل، تتذكر حين أدبه كما قال بحلق شعره كاملاً لمّا تدنتْ حصيلة البيع، وتأخر في العودة إلى عُشته.
في مسراها إليه تحمل معها ما تيسر من الطعام الذي يتقاسمانه، بالكاد يسد أودَهما، يأخذ منها نصيبه، وفي عينيه شكر ومنة مُجللٌ بعطف على حالها، ثم ترحل مُسرعة، ودوماً يتساءل :
– أين تذهب؟
– ولمَ تسرع ؟
– ولمَ هي دائماً على عَجلٍ ؟
الطعام لا يتناوله وحده، كلاب المكب يترقبون وصوله ودوماً في انتظاره، يجلس أمام عشته، تصطف الكلاب أمامه في خضوع… وسكينة …واطمئنان، ويشرع في توزيع ما اصطفاه لهم من عظام… وأطعمة جمعها
من حاويات القمامة بجوار المطعم القريب من إشارة المرور، ويظل مع الكلاب يطعمها … ويسقيها … ويلهو كعادته كل يومٍ.
ذات مساءٍ لفت نظره أحد (الجراء) الصغيرة وهو يجرجر قدمه اليسرى خلفه بمشقةٍ بالغةٍ، فطار إليه… وحمله، وربّت على قدمه … تفحصها، وجدها مكسورة، يبدو أن سيارة مسرعة دهمته، فصنع لها جبيرة من أعواد الأخشاب والصفائح، وضمّدَ الجبيرة ببعض الخِرق البالية وسط نظرات الكلاب … وهمهماتهم.
في قلب هذا الخلاء الذي يروع منه رابطُ الجأش تسمعه وهو يغني وحوله الكلاب جاثية، تصدر أصواتاً متقطعة، فماهي بنُباح… ولا لهاث، وحين يأوي لفرشته الكرتونية لينام … تنام هي كذلك أمام عشته حتى الصباح.
قسماتُ وجهه دقيقة ومتناسقة، عيناه سوداوان واسعتان، فوقهما حاجبان سميكان، شعره مُجعد ولو وجد العناية لأصبح مُرسلا، بنيتُه الجسدية ضئيلة، لا يعرف منْ حوله له أماً أو أباً، ذو ابتسامة دائمة حتى وهو نائم، ليس له أصدقاء إلا الفتاة التي تقاسمه بيع عقودِ الفل وكلاب المكب.
هذا اليوم لمحته من شرفتي وهو يطمئن على(الجرو) العليل الذي بدأ يتعافى، يتفقد قدمه بحنان… ورأفة، يمسح رأسه بيده… يبتسم له… يحادثه بكلمات غير مسموعة، فيهز الجرو ذيله، ويتمسح به، اطمأنّ أنه يستطيع السير الآن، ولكن بصعوبة ، لا بأس هو الآن أفضل.
ينتظر مُنتصباً أمام عشته وصول فتاة الفل، تأخرت عليه اليوم على غير عادتها لتسلمَه نصيبه، كل لحظة تلو أخرى يتطاول برأسه إلى أعلى عساه يراها قادمة.
الشمس رحلتْ، وخلفها الشفق، غطتْ الكون بشائر الليل، ها هو يلمحها مُقبلةً من بعيد، وتقف عند إشارة المرور، تلوح له بيدها، فأسرعتْ قدماه إليها تتضاربان… تصطكان قاطعاً الطريق نحوها .
فجأة وهو وسط الطريق اغتالته سيارة رعناء، أطاحته في الهواء، ألقته بعيداً، فسقط بلا حراك وقد تخددتْ رأسُه، ونزفتْ دماؤه التي خضّبت جسدَه والأرضَ حوله، دوّتْ صرخةُ الطفلة، مزقتْ صمتَ المكان .
الجرو العليل يُشاهدَ ما حلّ بصديقه، فهرول نحوه وهو يجرجر قدمه المصابة، ويشق سكون المكان بنباحه المتوالي دون هوادة، فرتْ السيارة من المكان، أحاط الجرو بجسد صاحبه صانعاً سداً بينه وبين السيارات القادمة، لا تزال الطفلة تنتحب، وتهيل التراب على رأسها، لا يزال الجرو ينبح دون توقف، فيختلط النحيب بالنباح.
نباح الجرو المستمر جعل بقية الكلاب القريبة تهوي إلى المكان، كلما وجدَ كلبٌ الفتى صديقهم صريعاً على الأرض بدأ في النباح، فيسمعه كلبٌ آخر…وآخر حتى غصّ المكان بعشراتِ الكلاب التي أحاطت بجثةِ صديقهم.
الكلاب المجاورة بدأتْ تفزع لنباح بعضها، حتى شكلتْ أمواجاً من الكلاب قادمة عبر الطرقات الجانبية، وتوقفت حركة السير تماماً، فقد قطعت الكلاب الطريق على السيارات، وتصدر أصواتاً ما بين النباح… والنشيج… وكأنه بكاء… ونداء… واستغاثة.
الكلاب حول جثة صديقهم تتشممه، تحاول جاهدةً تحريكه كي ينهض، فما زالت الابتسامة على شفتيه، وتمنع أي أحد من الاقتراب منه، بعد فترة من الزمن طالتْ، سُمعت أصوات أبواق سيارات الإسعاف تهرع إلى المكان ، بصعوبة اخترقَ المسعفون طوقَ الحماية حول الجثة … وحملوه … وانطلقوا .
بُعيد غروب شمس كل يومٍ، وهروب الشفق إلى الأفق الممتد المترامي خلف (عُشة) الفتى، أشاهد الكلاب تتوافد إلى إشارة المرور جماعاتٍ ووحداناً حيث قضى صديقهم، ويعلو نباحٌ يشبه البكاء… والعويل.
غرفةَ الفتى الخشبية لايزال النور ينبثق من فجواتها بُعيد الغروب وهروب الشفق، والجرو الصغير باسط ذراعيه أمامها.