العربي بنتركة: الحكيم …الناسك.. والعاشق..

العربي بنتركة: الحكيم …الناسك.. والعاشق..

تجربة إعلامية مميزة…لن تنسى أبدا

تمضي الأيام سريعة وتنفلت لحظاتها في غفلة منا ، تسرق منا الكثير من الأحبة…في انتظار التربص بنا متى نادى المنادي بالرحيل…

صورة مع الراحل بنتركة في لقاء بالرباط عام  2019

مر ما يزيد عن شهرين لرحيل فقيدنا الكبير المبدع والإعلامي الذي ترك بصمته الخالدة في تاريخ الإعلام المغربي الرصين والمتميز،  المرحوم ” العربي بنتركة ” الذي غادرنا بدون وداع يوم الجمعة 20 دجنبر 2024 . وحرصا من جريدة “ألوان” الإلكترونية  التي شهد الراحل ولادتها وتابع خطواتها عن قرب وعن بعد، لن تفوتنا فرصة استحضار ” ثقافة الاعتراف ” المتشبعين بها …وتكريما لذكراه ولصداقة نبيلة طوال عقود ارتأينا أن نتصل بمجموعة من المبدعين من أصدقاء الراحل لنخلد ذكراه من خلال هذه الشهادات التي تطلبت وقتا لتجميعها لاعتبارات شتى…لكننا جمعناها أخيرا نترك للقراء فرصة تتبعها…

زهرة منون ناصر: 

عرفت الأستاذ العربي بنتركة في نهاية الثمانينات وبداية التسعينيات من القرن الماضي..

كنت أشتغل حينها  بصحيفة “البلاغ المغربي” مع الراحل محمد بنيحيى، عرفت  العربي بنتركة ضمن مجموعة من الأصدقاء، أذكر منهم الكاتب الراحل القمري بشير، والممثلة ماريا صادق، والمسرحي  عبد الحق الزروالي، ومجموعة من ممثلين ورسامين كان مقر اللقاء الذي يجمعهم  “مقهى باليما” المقابلة للبرلمان.
كان المرحوم يتحدث عن الكتابة والإبداع بعشق، كان  رجلا صريحا وجريئا. يسمي الأشياء بمسمياتها، ناقد لاذع، لا يجامل أحدا.. تعلمت منه الكثير، كان  يشجعني على الكتابة الإبداعية باستمرار، عرفني بالعديد من الفنانين الرباطيين ورسامين واعلاميين كثيرون .. كان رجلا يقدس النساء ويقول أن العالم بدون نساء لا يساوي فلسا…كيف لا، ووالدتي امرأة، وزوجتي امرأة، وابنتي امرأة…

لن أقول أكثر، لأترك للأصدقاء الذين عاشروه أكثر ليدلوا بشهاداتهم في حقه تكريما له وإن استحق الكثير… تابعونا..

نبذة عن الأستاذ العربي بنتركة:

من مواليد الدار البيضاء سنة 1945، التحق بالإذاعة  الوطنية سنة 1962 حيث قدم العديد من البرامج المتميزة التي تنوعت بين الثقافة والفن والأدب والمجتمع والترفيه. إذ أشرف على تقديم أكثر من 30 برنامجا تلفزيونيا واذاعيا من بينها برنامج ” نجوم الأمس” الذي استضاف فيه العديد من الفنانين والمثقفين المغاربة 

تميز خلال مسيرته الإعلامية بأسلوبه الراقي المميز في التقديم، وحظي بالثقة الكبيرة لدى الجمهور المغربي المتتبع له ولأعماله، كما تفرد –  خلال البرامج التلفزية التي كان يقدمها – بالحرص على أن يبقى وجهه نحو الضيف ، و الكاميرا في نظره هي للمحاوَر الذي ينبغي أن يبرز للمشاهدين، وهذا أمر لم يسبقه له أي كان . ولم يكتف المرحوم العربي بنتركة بالعمل الإعلامي فقط ، بل اهتم بالتأليف الغنائي  والمسرحي ، مرددا قوله: [عندما يٌورث الجمال يحيا الإبداع ] ، ناهلا من أحواض تجربة  إنسانية متميزة ، ذات مرجعية رائدة ظهرت جلية في إنتاجاته الأدبية ، مركزا على طرح الأسئلة ، أكثر من انشغاله بالبحث عن أجوبة لها ، ومن أمثلة  إبداعاته نذكر :[ المدينة المهجورة – قصة الصخرة – واحات تافيلالت ….] . بالإضافة إلى كتاباته السينوغرافية لأفلام روائية تلفزيونية حققت نجاحات باهرة ، منها [ شادية – قصر السوق – الطيابة ….] . ومن أعماله المسرحية نذكر  [ القرية – راجل ولد مو –  واحة الفرح…]

 وعن مؤسسة ” ريشة ” للإنتاج الأدبي والفني ، كان قد أصدر أضمومة لأعماله الكاملة ، تضمنت 8 أعمال سبق للمرحوم  أن نشرها على فترات زمنية متباعدة في مسيرته الابداعية ، وهي : [ العقل اولا …العقل أخيرا – إصلاح الإعلام… لا اعلام الإصلاح – فوهة بركان – ليال بلا قمر ولا مطر – أنشودة القمر – الديموغراضي – سبع شوانط  – أيام غانجو ] بالإضافة إلى عمل اخر لم يسبق أن نشره يحمل عنوان الصراصير.
ورد في إحدى افتتاحيات الشروق نيوز 24 ، أن جريدة القدس العربي سبق وفي سؤال لها عن أثر إصدار مؤَلَف أعماله الكاملة ، فكان جوابه على ذلك هو ماكتبه في مؤلفه : [ لاشيء أشد مرارة علي أن أتحدث عن نفسي أو أقول شيئا عن عمل أنجزت… وذلك حقا ما يحرجني ويدفعني إلى القلق ،وكم اعترفت بعدائي لنفسي كلما عشقت نفسي أن تتحدث عن نفسها  ] . وأضاف متحدثا عن مجموعته  قائلا :  [ أعترف لكم بأني مارست ” الرقابة ” على بعض أعمالي فأقصيتها من هذه المجموعة ، ولا أدري قدر الصواب في ذلك ] .
وفي كلام مؤثر له عن الأصدقاء يقول :
 [ الصديق لا يعطيك الا صدقه ] أما الأعداء فهم [ كلما تناسلوا وكثر عددهم وتحالفوا وتألفوا في حلقات مؤلفين اشاعات بما وفيما لا يعلمون ] . ثم نجده يؤكد على أنه بفضل عداء الأعداء ، تمكن من ولوج أبواب ماكان له أن يلجها لولاهم . ويضيف قائلا :
[ الفرق بيننا أنهم سعوا إلى الدنيا فأغوتهم بما يردون وساقتهم إلى ما تريد ، فيما بقيت موظفا مع التاريخ ومتمسكا بقوله تبارك ( أليس الله بكاف عبده ) والتفت إليهم وهم مشغولون بي ، لأني منشغل بنفسي وانها لنعمة تبطل النقمة …. فكم  بابا ولجت منه ما كان لي أن أدخل منه لولاهم ] . ومن باب سمو أخلاقه ونبله لم ينس  المرحوم العربي بنتركة ، شكر من كانوا له مساندين وداعمين ، عندما قال :
[ تمة رجال حق علي ذكرهم وتذكرهم حتى بدون مناسبة ، لقاء ما أسدوه إلي من معروف وقدموا إلي من عون ودعم ومساندة ] ..

شهادات في حق الفقيد العربي بنتركة

الأديب محمد صوف:  العربي بنتركة كان ناسكا

في التلفزة المغربية ،كان هناك برنامج ثقافي وحيد أوحد .اتحدث عن سبعينات القرن الماضي. منشط ومعد هذا البرنامج تميز بإخفاء وجهه .لا أحد كان يعرفه .قد تجده في مقهى أو في طابور قاعة عرض سينمائي أو.. أو .. الخ .يكتفي بمحاورة ضيوفه وكان ذلك من خلف ستار . اسمه العربي بنتركة.. .ما علينا.

حدث أن أصدرت مجموعة قصصية بكر تحمل عنوان “تمزقات” وبعثت بنسخة إلى البرنامج. بعثت بها دون امل في الإخبار عنها ،فالرجل يحاور المشاهير في الثقافة والفن .

ثم حدث أن سمعت اسمي موسوما بالكاتب المغربي فلان.. هكذا أصبحت كاتبا مغربيا وأنا في مستهل مسار. بعض من يتابعون البرنامج دون أن يكونوا يعرفون أن لي محاولات في كتابة القصة ، سألوني هل أنا فعلا من ورد اسمه في البرنامج ذات مساء.

نعم. أنا. بعد ذلك بزمن سألت الراحل السي محمد زفزاف عنه وعن سبب عدم ظهوره. قلت لعله من عشاق الإذاعة الذين يكتفون بالصوت .كان رد الكاتب الكبير أن العربي ليست له أسنان امامية .. ربما. وفي المهرجان الوطني الثاني للفيلم المغربي رايته. استقبلني… وكأن بيننا مودة قديمة .استقبلني بأسنانه كاملة . لم أسأله عن سبب عدم ظهوره.. حدثني عن إبداعاته التي لم تكن قد رأت النور بعد .تحدثنا عن مشاريع لم نحقق منها شيئا. واصبحت لقاءاتنا في المهرجان تتكرر بشكل اكثر من تلقائي. يبحث عني وأبحث عنه. انتهى المهرجان …ولم تنته صداقتنا وإن ظلت لقاءاتنا متباعدة في الزمن فقط.

وحدث ان قدمت سيناريو شريط تلفزي لم يحظ باهتمام الراحل الفنان فريد بنمبارك لكنه اثار انتباه الراحل إدريس التادلي فسال عني يبغي رؤيتي. تطوع العربي بنتركة لعقد لقاء بيننا.. وكان اللقاء في الدار البيضاء. تحدثنا عن المشروع وعن سياسة التعامل مع المشاريع في التلفزة المغربية. كانت حينها عندنا قناة واحدة..قال عني كلاما اخجلني. من اين استقى الأخبار عني. لم ينجح مشروع الشريط. ظل ،رغم تدخل إدريس التادلي، مشروعا إلى الآن بعد ذلك ظللت أتابع ما يكتب .روايته الأولى ثم اعماله الكاملة .. كانت لقاءاتنا تقتصر على تحيات تصلني منه وتصله مني بواسطة اصدقاء مشتركين.. محبوبا كان..حتى النمامون بامتياز لم يصدر عنهم قط قدح لشخصه وسلوكه و بعده الاختياري عن الأضواء. كان ناسكا.

الإعلامي والكاتب عبد الرحيم التوراني: العربي بنتركة كتب للحاضر و المستقبل”

الكاتب والاعلامي العربي بنتركة، الذي يعرفه الجمهور الثقافي في بلادنا كواحد من رواد ومؤسسي العمل الثقافي في المغرب، لا سيما في مجال الإعلام السمعي – البصري. اشتغل معدا ومقدما لأولى البرامج في الإذاعة والتلفزيون بالمغرب، والتي  شكلت نافذة للإطلالة على عوالم الثقافة والإبداع والفنون في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي أساسا. إذ يكفي القول، إن برنامج “مجلة الثقافة والفن” كان موعدا أسبوعيا منتظرا في القناة التلفزيونية الوحيدة وقتذاك بالمغرب. فمن خلال فقرات برامج العربي بنتركة تمكن الجمهور من متابعة العديد من الوجوه والأسماء والفعاليات الأدبية والفنية المغربية والعربية والأجنبية، التي كانت تملأ المشهد والساحة في هذا المجال.

 منذ التحاقه بمؤسسة الإذاعة والتلفزة المغربية في مستهل عقد الستينيات من القرن الماضي، استطاع العربي بنتركة أن يصمد ببرنامجه، ويفرض اسمه كواحد من أشهر معدي برامج التلفزيون المغربي. وتميز كمنتج إذاعي مرموق لعدد من الأعمال والبرامج التلفزية والإذاعية، التي تربو عن ثلاثين برنامجا توزعت ما بين الإذاعي والتلفزي، في مجالات الثقافة والفن والآداب والمجتمع والترفيه، بالرغم من الحيز الزمني الضيق المتاح لبثها واعتبارا لضآلة الإمكانيات المادية والتقنية التي كانت متاحة زمنئذ ومحدوديتها.

 من الأعمال الروائية التي صدرت للروائي العربي بنتركة، نذكر روايات: “أنشودة القمر”، “فوهة بركان”، “أيام غانجو”، و”سبع شوانط”. ويتضمن الإصدار الذي بين يدينا، رواية تنشر لأول مرة ضمن الأعمال الأولى الكاملة تحمل عنوان: “الصراصير”.

 الأعمال الروائية للكاتب العربي بنتركة تبدو للوهلة الأولى أنها روايات تجريبية تنهل من أسلوب متعدد المستويات، يتداخل فيه السرد الكلاسيكي بالسوريالي، وتتداخل فيه الأزمنة ليتشابك الواقع بالمتخيل. لكن مع التقدم في قراءة الروائي العربي بنتركة ، قد يبدأ القارئ في تسمية شخوص العمل الروائي بأسمائها الحقيقية في الواقع، ويدرك أنه أمام كتابة لاذعة تحمل بين سطورها قدرا عاليا من السخرية. كتابة تكشف مآسي الواقع والمعيش. لكنها سخرية سوداء تغوص في عمق عوالم المجتمع وتمزقات شخوصه، من خلال رصد الكاتب للتحولات والظواهر والممارسات المتأزمة.

رواية العربي بنتركة تصل مثقلة بهموم الواقع وبقسوته، كاسرة ومُفتِّتَة للنمطية، تجول بالقارئ عبر دروب ملتوية مليئة بالشخوص والأحداث التي تعكس نظرة الكاتب للحياة وأشيائها، وتطلعنا على كيفية بلورته لرؤيته للذات وللواقع من حوله. كل ذلك بلغة تجمع ما بين البساطة والعمق في آنٍ واحد. ما يُيَسِّر أمام القارئ الانغمار في عوالم خاصة بأساليب متعددة تتجاوز حدة الحاضر وسطوة الماضي وغموض الآتي.

ولأن الكاتب العربي بنتركة ينهل من تجربة إنسانية ومرجعية زاخرة، فإنه يحرص من خلال إنتاجه القصصي والروائي على طرح الأسئلة أكثر مما يحاول تقديم أجوبة جاهزة.

لم تحظ روايات وقصص العربي بنتركة بالاهتمام المطلوب من النقاد، فرغم انتمائه إلى مجالات التواصل والإعلام، فهو ليس برجل العلاقات العامة المتحذلق، الذي يسعى بابتذال إلى تسويق ذاته وإنتاجه. انه رجل يتجنب المحاباة والمجاملات الفارغة، ينأى دائما عن نسج العلاقات الشخصية المقعرة، ويربأ بنفسه أن تكون أعماله وإنتاجاته الأدبية محط إطراء خارج النص وخارج محتواها كي تنجح في لفت أنظار القارئ أو الناقد. ولعل المشاهدين يتذكرون أن العربي بنتركة ظل حريصا على عدم إظهار ملامح وجهه في برامجه على شاشة التلفزيون، وكان يؤكد على المخرج توجيه الكاميرا باستمرار إلى ضيوف برنامجه، بينما لا نشاهد سوى جانبا من ظلال وجهه، رغم وسامته.

العربي بنتركة يكتب للحاضر والمستقبل، فهو ليس مستعجلا لتلقي إطراء عابر أو كلمات مديح غير مستحق. وها هي أعماله الكاملة تطرح لمن يبحث عنها. عرف العربي بنتركة ككاتب سيناريو لأعمال درامية شاهدها الجمهور على الشاشة المغربية وحققت نجاحا. لكن العربي بنتركة عرف أيضا في مجال الشعر والزجل، بإقدامه على كتابة القصيدة الغنائية بالعامية والفصحى، التي حظي بعضها بالتلحين والغناء من قبل أسماء فنية بارزة في مجال الموسيقى والطرب ببلادنا.

إضافة إلى كل ذلك، سجل العربي بنتركة اسمه باستحقاق ككاتب روائي ومؤلف مسرحي، وكصاحب مقالات تخصصت في مجال الأبحاث الإعلامية. إذ واكب تحولات وإشكاليات الإعلام في المغرب المستقل. كما لم يتأخر في نقد ما يستوجب النقد والسجال، ولو اضطرته الظروف العملية أحيانا إلى النشر بأسماء مستعار. إذ له إسهامات  صحفية عبر مقالات جادة، ظلت دائما موضع ترحيب منابر مغربية وعربية متعددة، نذكر منها هنا على سبيل المثال:  صحف: “التحرير”، و”البيان”، و”المحرر”، و”الاتحاد الاشتراكي”. ومجلات: “أنفاس”، و”الفكر” التونسية، و”الفنون” العراقية، و”العربي” الكويتية”.

أعتقد جازما أن جمع وإعادة طبع الأعمال الكاملة للأدباء والكتاب والشعراء على أهمية قصوى بالغة، تتجاوز مضمونها لتسهم بدور مطلوب في التوثيق والتأريخ للثقافة المغربية. خصوصا عند نفاد طبعاتها وصعوبة الحصول على نسخ منها لعدم توافرها. مبادرة من شأنها أن تمثل بجلاء تجسيرا للهوة بين حلقات الحركة الأدبية من خلال تنوع نماذجها واللحظة الحالية. بالإضافة إلى إعادة الاعتبار للكاتب المعني وإتاحة إنتاجاته من جديد أمام النقاد والباحثين والمهتمين. الأمر الذي يدعم الحقل الثقافي المغربي وينهض بآفاقه.

الأديب والفنان نور الدين ضرار: “بعد التقاعد.. بنتركة طاله الكثير من التهميش

حينما نتذكر الراحل العربي بنتركة، فهو يحضرنا كأحد الوجوه المعروفة في المغرب بصفته الإعلامية والأدبية والإنسانية أيضا.. إذ يعتبر إحدى الدعامات الأساسية في وضع لبنة قوية لإعلامنا الثقافي السمعي البصري في مغرب السبعينات والثمانينات بكب ما كان يعتمل فيه من تجاذبات أدبية وفنية وفكرية وسياسية بكفاءة عالية وحس وطني صادق.. خاصة أن الرجل كان قد تلقى تكوينا في المجال الإعلامي بلبنان بداية الستينيات، ومباشرة بعد تخرجه التحق بالإذاعة والتلفزة الوطنية بدار البريهي بالرباط سنة 1962، حيث ارتبط اسمه بالعديد من البرامج الإذاعية والتلفزية التي من خلالها تعرف عليه الجمهور المغربي، وبالأخص  برنامجه التلفزي “المجلة الثقافية” الذي كان يحظى إبّانها بتقدير كبير واهتمام واسع في الأوساط الثقافية والفكرية، بل وحتى الاجتماعية عموما.

كان في ظهوره التلفزي رحمة الله عليه يتميز بأسلوب استثنائي خاص ، إذ عوّد مشاهديه في استضافته لكبار أعلام الثقافة المغربية على وضع الكاميرا خلفه لتسليطها على الضيف في إطار ثابت، وهذا كان كتوقيع خاص بالتركيز في حواره على ضيف الحلقة دون صرف النظر عنه أو تشتيت رؤية المشاهد.

لقد ربطتني بالراحل العربي بنتركة آصرة طيبة وقوية جدا خاصة في السنوات الأخيرة، أما البداية فكانت بمحض الصدفة في بيت أحد الأصدقاء المشتركين الكاتب فقيهي الراوي الصحراوي بمعية الأستاذ مبروك بنعزوز، لتتوطد صداقتنا وتتاح لنا  لقاءات في مناسبات عدة وأسفار وجلسات رباعية هنا أو هناك..  كان الرجل حريصا على حضور  فعاليات  المعرض الدولي للكتاب، وتشريفي في توقيعات بعض إصداراتي، إذ كنت دائما أترقب لقاءه ، هو الميال لعزلته ، والمقل في صداقاته بعيدا عن زحمة الحشود لأكثر من سبب، ولم يخلف وعده معي رحمة الله عليه إلا في النسخة الأخيرة بالمعرض الدولي بالرباط ، بحكم وضعه الصحي الذي ألزمه الفراش لمدة طويلة نسبيا، مما قلل من لقاءاتنا دون أن يقلل من تواصلنا بوتيرة مستمرة..

والجدير بالذكر هنا أنه بعد إحالته على التقاعد طاله الكثير من التهميش والاهتمام الرسمي ثقافيا وإعلاميا، وهو الإعلامي البارز والأديب المعطاء وصاحب المواقف المشهودة.. ولا أتحرج من ذكر الامتعاض الذي كان يحس به، بل أحسست بامتعاضه أكثر وهو مسجى في نعشه حين حضرت جنازته، حيث لم يكن فيها إلا أنا والصديق فقيهي مع بعض معارفه من أهله وجيرانه.. وغير هؤلاء للأسف لم يحضر مراسيم تشييع جثمانه.. ولا واحد من المحسوبين على القطاع الإعلامي والثقافي من زملاء أو أصدقاء.. وأكثر من ذلك ، لم ألحظ لحد الآن أية التفاتة أو مادة إعلامية سواء في الصحافة المكتوبة أو المسموعة أو المرئية، تقديرا لما أعطاه إذاعيا وتلفزيا وأدبيا وثقافيا..

لا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن الأستاذ العربي بنتركة قد اختار، وهو شاب، خوض غمار مهنة المتاعب في مغرب سنوات الجمر والرصاص في إطار الإعلام الرسمي، لكنه كان يعطينا الانطباع بالتعامل معه خارج النطاق المؤسساتي خارج السلطة البيروقراطية بحيث أنه كان يتسم بنوع من الفكر المتحرر، والالتزام بالقواعد الأخلاقية بالمهنة، وبما تستوجب من حرية فكر وحرية موقف وحرية رأي وحرية التعبير.. بل له كتاب في هذا الباب يُعنى بمجال الإصلاح الإعلامي، دليلا شاهدا على أنه لم يكن صحفيا مستكينا لكرسيه الوظيفي.. وعلى كل حال فالرجل استطاع ان يحقق نوعا من التوازن في توجهه الإعلامي والثقافي، مما أكسبه احترام جمهوره وتقدير متابعيه يمينا ويسارا، وهو ما لم يكن متيسرا للكل في تلك المرحلة الضاجة بقوة الاحتدام الإيديولوجي والسياسي، خاصة في السبعينات والثمانينيات..

مما قربني أكثر من الراحل، وأتاح لي الاستمتاع بالكثير من مجالساته وذكرياته وشجونه أيضا، أننا تشاركنا أسفار صداقة إلى بعض المدن المغربية لا تلبية لدعوة من مؤسسة ولا حضورا لجوقة جمعية.. وكنا نؤثث جلساتنا المغلقة باستحضار تحف غنائية من زمننا الجميل، وأحاديث شجية عن تلك الفترة الذهبية من تاريخ مغربنا الفني والثقافي.. وقد أفدتُ كثيرا في هذه الأجواء العفوية من جوانب غنية من ذكرياته الخاصة وأرشيفه السري، إلى حد أنني غير ما مرة اقترحت عليه التعاون في إنجاز مذكراته أو دفعه لكتابة سيرته الإعلامية.. لم يتردد فقط تذرعا بالتأجيل، بل أيضا استسلاما لوهن العظم وتقدم العمر ودنو الأجل.. وإن ترك حسب علمي أكثر من مخطوط أدبي، وظل يحمل الهم الثقافي والإعلامي لآخر أيام حياته .

أشير إلى أن الراحل ترك رصيدا أدبيا وفكريا وفنيا متنوعا في اهتماماته كما في كتاباته.. فبصرف النظر عن قبعة الإعلامي الحامل ميكرفون بصفته صحفيا إعلاميا، فقد كانت له أيضا عطاءات في مجال الكتابة، والأغنية، والمسرح، والأفلام التلفزية..  بل علاوة على ذلك كان حامل فكر وقلم.. مبدعا  وعلما من طينة الكبار.. وإن كان الرجل قد رحل عنا في صمت بكفن التجاهل والنسيان، فسيبقى له على ذمتنا بأية حال واجب الاعتراف والعرفان.. ودوما عند الله حسن المآل..

الإعلامي عبد السلام الزروالي:   “بنتركة الذي أفاض واستفاض وأجاد فأفاد”

لم أُفق بعد من ارتدادات زلزلة الفراق، وداع جمد كل الأحاسيس عند برزخ الطيش، ألقى بدخيلتي في دوامة العدم وضمّخ صمتي بشرود نازف أليم. إن الفراق والوداع وقع بهما التدبير في القضاء والقدر، وأن الفناء أفنى عزيزا وأن الحق هو الباقي أبدا بلا زوال.

كان تواصلي مع الفقيد العربي بنتركة لا ينقطع، فهو كائن لا تمل معاشرته، طيب تستعذب حِكَمه وكلماته، رهيف الإنصات، صدوق الرأي ميسر العقبات، مبدع في المسارعة إلى الخير، لا يميل للسجال بل يدلي بحجته ويستكين للبشرى والأمل. ماضي بنتركة لم يكن قط ناقصا، لذا أتحاشى عن استعمال فعل “كان” فكانته” كاملة، هي اكتملت بأخلاقه الرفيعة وسمته الأنيقة ومعرفته المتنوعة وصمته الحكيم وصوته المحرابي الرخيم ووفائه الراسخ لأحبائه في السر والعلن، في السراء والضراء وتحمله الأذى في صبر أيوبي .. عزيز ونادر – تلك المزايا جعلت من حضور مولاي العربي في المجالس أمرا لافتا. يقال إن السفر مختبر الصداقة . سافرت مع السيد العربي رفيقا ومرافقا، فكانت رفقة ود وكياسة وصبر وعلم ونكتة، رفقة متعة وفائدة، اكتشاف وفرح، حصل ذلك مرات شتى في العيون بالصحراء المغربية وكلميم واكادير (مرات عديدة) والدار البيضاء والداخلة في كل ذلك، كان منيرا إذا حاضر مؤثرا إذا أشار، صدوقا إذا فصح، صبورا على خسة بعضهم ومتحملا إذا لمز غير حقود إذا لُدغ صفوحا وإن لم يستسمح.

لن أنساك أيها الفائق معزة أيها الحاذق معاملة والوفي صحبة. لن أنسى صمتك الحكيم المستوعب للصدمات.  فسلام عليك يوم ولدت، ويوم رحلت ويوم نلقاك كريما بهيا..

رحل بنتركة الذي أفاض واستفاض وأجاد فأفاد القوم بما ينفعهم في حياتهم مع لغتهم بمبانيها ومعانيها – رجل وهو منتصب القامة، مرفوع الهامة تحفه آيات الأنفة والكبرياء الجميل .

ماذا عساني أقول غير هذا في حق هذا الهرم الإعلامي والقيمة الشامخة، أبلى في التلفزة والسينما أيما بلاء ، وعبر أعمدة الصحف الوطنية بجرأة لم تكن معهودة في زملائه آنذاك، ترك لنا رصيدا من المؤلفات، حفزتُه شخصيا قبل رحيله بتجميعها ضمن أعمال كاملة ، وتم ذلك بحمد الله وكان آخر إنتاجه – رحمك الله- “با عربي” كما كنت أناديك، وخلد في الصالحات ذكرك.

*مع صادق التعازي من طاقم تحرير جريدة وموقع “ألوانلأسرته وذويه*

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية مديرة وإعلامية موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بمغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل و المراسلات:jaridatealwane@alwanne.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *