أصدقاء المغرب: Pierre Parent
المعمّر الذي نادى باستقلال المغرب
بيير باران: 1893 – 1957
معمر فرنسي له ضيعة صغيرة بالبئر الجديد (منطقة دكالة) استقر فيها سنة 1933، ولكن آراءه ومواقفه تختلف عن باقي المعمرين المعروفين بأفكارهم الرجعية والاستعمارية، حياته في البادية المغربية جعلته يقف على كل أنواع القهر والتعسف التي يمارسها المسؤولون الفرنسيون أو القواد المحليون على الفلاحين لاستغلالهم وابتزازهم.
وصل الضابط بيير باران Pierre Parent إلى المغرب سنة 1916 بعد أن شارك في الحرب العالمية، وفقد في إحدى المعارك أحد ذراعيه، التقى بالجنرال ليوطي وكان يناقشه ويحتد في مناقشته، ولكن الجنرال أحب فيه الصراحة والصدق، كما أن الضابط تأثر من جهته بآراء ليوطي وبتصوره للحماية ودورها، وحين اقتربت حرب الريف من نهايتها، تكلف بيير باران رفقة موريس غو Maurice Gaud بمهمة إنسانية لدى ابن عبد الكريم الخطابي لإسعاف الأسرى الفرنسيين وطمأنتهم والرفع من معنوياتهم، وكان لهذا اللقاء مع الزعيم الريفي بالغ الأثر في نفسه، إذ دفعه إلى دراسة تاريخ المغرب، والتعرف على عاداته وتقاليده وقبائله، وحين بدأت الحركة الوطنية المغربية في الظهور مع بداية الثلاثينات، اهتم بها، وتفهم آراءها وأفكارها، وهو ما يظهر بوضوح في الكتيب الذي أصدره بعنوان فرنسيون ومغاربة والذي يطرح فيه المشاكل التي يعيشها المغاربة والتي قد تؤدي إلى تعميق الهوة بين الفرنسيين والمغاربة، وقد نوهت جريدة إرادة الشعب التي كانت تصدرها الحركة الوطنية بهذا الكتيب في عددها ليوم 12 يناير 1934.
أثناء الحرب العالمية الثانية سينضم إلى مجموعة الفرنسيين المؤيدين للجنرال دوغول ويتم انتخابه سنة 1944 ممثلا لقدماء المحاربين في الجمعية الوطنية التأسيسية، وعلى منبر هذه المؤسسة، كان بييرباران يدعو إلى إقامة المساواة بين الفرنسيين والمغاربة، فيما يخص الميزانيات المرصودة للتعليم أو الصحة أو الزراعة وكذا في مجال العدلية، ويلح على ضرورة منح المغاربة هم أيضا الحق في التعبير وفي إنشاء الصحف وتأسيس الجمعيات. وحين بدأ المسؤولون في باريس أو في الإقامة العامة بالرباط يطرحون مشاريع الإصلاح، بعد تقديم الوطنيين لوثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944 وما تلاها من أحداث، كان بيير باران يؤكد على أن نجاح أي إصلاح لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تم التنسيق فيه مع المغاربة، بل أكثر من ذلك على المغاربة أنفسهم أن يقدموا اقتراحات الإصلاح هذه.
لكن بييرباران في كتاباته اللاحقة لن يكتفي بمجرد المطالبة بالإصلاح وبالمساواة داخل نظام الحماية، بل يبدأ في التأكيد على أن أي حل للمسألة المغربية لن يتم إلا بمنح المغاربة حريتهم واستقلالهم وحقهم في تدبير شؤونهم بأنفسهم، وقد ألف في ذلك كتابا سماه مغرب 1948 إلا أن الرقابة ¬ وبأمر من الجنرال جوان المقيم العام ¬ منعت نشره فأعاد صياغته وتنقيحه وأضاف إليه مواد أخرى، ثم نشره في فرنسا بعنوان المشكل المغربي سنة 1949 وفيه يوضح أن الحماية قد انحرفت عن مسارها الحقيقي الذي هو تأهيل المغاربة وتكوينهم مع حفاظهم على سيادتهم ودولتهم، مستشهدا بقوله للجنرال ليوطي سنة 1920 يحدد فيها الحماية ” مفهوم الحماية هو أن يحتفظ بلد بمؤسساته ويحكم نفسه بنفسه ويدبر شؤونه بنفسه بواسطة أطره الخاصة وتحت مراقبة بسيطة لقوة أوربية”، ثم يفضح في هذا الكتاب مختلف مظاهر الحيف والتمييز التي تمارسها السلطات الاستعمارية ضد المغاربة في كل المجالات : التعليم، الصحة، العدلية… وغيرها من الخدمات، ويبين أن كل ما بنته فرنسا من بنيات تحتية أو مؤسسات كان في خدمة الجالية الفرنسية، وهو ما يؤدي إلى التوترات الاجتماعية والسياسية، وإلى تعميق الهوة بين الشعبين الفرنسي والمغربي، مما سيؤثر في أي علاقات استقبالية بينهما. في هذا الكتاب يهاجم بيير باران أيضا الجنرال جوان المقيم العام والرأس المدبر لغلاة الاستعماريين ويشكك في وطنيته ويفضح ماضيه في الحرب العالمية الثانية وتواطؤه مع الألمان ومع حكومة فيشي.
وطبعا فإن مثل هذه الآراء لا يمكن أن يغفرها له جوان وتلميذه وخلفه غيوم Guillaume، فحين ستندلع أحداث دجنبر 1952 بالدار البيضاء، وما صاحبها من توتر وهيحان وقمع شديد للمغاربة وللأحرار الفرنسيين، سيكون بيير باران في قائمة الفرنسيين الذين تم طردهم إلى فرنسا، وكان من ضمن التهم الموجهة إليه، تعاطفه مع الوطنيين المغاربة لأنه كان يكتب في جريدة الاستقلال.. ويحكي المؤرخ والمناضل النقابي ألبير عياش أن الشرطة حين اعتقلت بيير باران لم تستطع أن تضع حلقات الأصفاد سوى في يد واحدة، فقد كان مبتور الذراع، أما الحلقة الأخرى فد وضعتها في يد ألبير عياش ،الذي كان بدوره أحد المطرودين من المغرب، ولم يكن المسكين قادرا على حك رأسه دون مساعدة عياش.
عاد بيير باران إلى المغرب بعد الاستقلال، ولقي من الاحترام ما يستحق واشتغل بالإذاعة الوطنية حيث كان يلقى فيها أحاديث تصب في ضرورة استعادة العلاقات الطبيعية بين الشعبين الفرنسي والمغربي، وبين بلدين لكل منهما كامل سيادته وحريته.
واعترافا له بالجميل ووفاء لذكرى هذا المواطن الفرنسي الحر، سيطلق اسمه بعد وفاته سنة 1957 على الزنقة التي يوجد فيها مقر الإذاعة الوطنية، قبل أن يعاد تسميتها مرة أخرى بزنقة البريهي، لكن مدينة الدار البيضاء مازالت تحتفظ باسمه على أحد أزقتها.