خواطر امرأة
أن تصبح رمادا في موقد النسيان
ثريا الطاهري الورطاسي
هامش كالبدء :
هذه الخاطرة / الفكرة ، وجهتها لنفسي اولا قبل أي كان من الأصدقاء والأهل والاحباب بغض النظر عن مكان تواجدهم او مواقعهم . فعادة ما تكون عين الإنسان مجهرا تبين له الدنيا أكبر مما هي في حقيقتها وقد تجعله يعيد حساباته، ولعل رؤيته المتبصرة تلك هي التي تحدد له قيمة الوجود والموجودات على حد سواء ، وتبقى علاقته مع الأخر مطبوعة بالمحبة المتبادلة والخالصة التي لا تحتاج لعهود وشروط أوأسباب ، بل تحتاج فقط إلى شخصين رائعين ، فالاول يثق والثاني يفي ، فالمحبة في الله هي مايجمع بين أشخاصا قلوبهم ندية كالورود ، وهم وهن جميلون بصفاتهم واخلاقهم ، ورائعون بمختلف اساليبهم الحياتية ، وإذا حدث وغبت عنهم افتقدوك ، وان حضرت أكرموك ، وإن نسيت ذكروك ، فهم كالنجوم إذا ضلت سفينتك في بحر الحياة كانوا بمثابة فنار ارشادك .
ماأجمل الذين يحبونك بكل تفاصيلك ، بسذاجتك وعفويتك ، يتفهمون صمتك وتقصيرك وحتى اختفائك ، يتلمسون لك العذر قبل أن تعتذر ، تتشارك معهم الضعف والقوة ، الهدوء والصخب ، ويحترمون صمتك وبعدك عندما يتطلب الأمر ذلك ، كل ذلك في انسجام تام مع ماتفترضه قواعد السلوك الإنساني والمواطنة الحقة ، الامر الذي يجعلك تحن اليهم / هن وتشعر بالاشتياق معهم وفي حضرتهم ، فتكون ملزما – وطوعا – في أن تسندهم ، وتعيش على أمل ايجادهم يوما ما حتى وإن كان الأمر قد صار مستحيلا ، وبكل بساطة ترى بأن الحياة لم ولن تكون أبدا إلا معهم وبهم ومن اجلهم . ما أجمل تلك قلوب تلك الفئة من ناس لا يتكررون ولايعوضون مهما تعرفنا او التقينا بغيرهم ، يبقون مميزين بصدقهم ، بمواقفهم ، بمبادئهم ، باخلاقهم ، بكرمهم وحبهم ، وبكل مافيهم وماهم عليه ، ولن تزيدهم الايام إلا نضجا وبهاء واحتراما ورسوخا في القلب . لكن ما أصعب أن تصبح ذات يوم رمادا في موقد النسيان ، او تصبح تائها في دوامة حلم غير مكتمل ، وواقع لا يحتمل عند أناس كانوا بالأمس أعزاء ، يبحثون عن أخطائك او يصطنعوها كي يرحلوا عنك ، وعندئد تكون ملزما باستيعاب الموقف / المواقف التي ولجتها مكرها أو مجبورا ، وتعطيك تأشرة المرور لبوابة الرحيل . ويبقى أصعب موقف يعيشه الواحد منا هي حينما يشعر ببرودة العلاقة وفتورها ، وبدون سابق إنذار ، وكم هو مؤلم جدا أن تدرك أنك أصبحت عنصرا ثانويا ، وأنت تتجول بين صفحات الاحبة ومواقعهم ، فينقبض قلبك وتشعر بحزن لا يوصف ، فتميل الى الانكماش ، وتركبها دوامة الصمت الهادىء ، فتتقاطر عليك تدوينات وتعليقات أشخاص كانوا بالأمس القريب من أعز الناس على القلب ، او تجمعك وإياهم علاقات مميزة وضاربة بعمق في جذور المحبة ، وتزداد دهشتك أكثر وأنت تتابع أفكارهم وحواراتهم عن المحبة ، وتجد نفسك تائها في مسار عبثي وسجين عزة نفس أبية ، فتختاره الأنزواء ، لان إرهاقك أكبر من كل بوح غير مجدي ، وتصمت لأنك تفتقد الحرف البراق القادر على وصف بعثرة المشاعر ، وبالتالي يغير الكلام أو يُفْقَد بدعوى عدم وجود أي مبرر للصدح به ، وتمنعك عزة النفس عن معرفة أسباب الهجر ، وانت تعلم أن في قانون عزة النفس لا جبر لأي أحد على الإهتمام بالاخر او حتى السؤال عنه ، فتصدمك احيانا الكثير من المواقف وتمضي في دروب التناسي والتجاهل وكأنك لم تر او تسمع ، وحينما تبدأ دوامة الشك في الدوران وتبدأ مسيرة البحث عن الأعذار والتبريرات ومايدور في ذلك الفلك ، تجد نفسك وقد حلقت في فضاء التعالي الطوعي و الإيجابي بحثا عن السكينة المطلقة ، وتجنبا لإذلال المشاعر ، او إلى قتل تلك العاطفة غير المتبادلة ، أوإلى تفحيم الأخر ورميه في موقد النسيان ، وعندئد يصبح الرحيل من أوجب الواجبات ، وما ذلك الا لأن القرارات التي تصنعها الكرامة تبقى دوما صائبة حتى وإن اوجعت . فحينما تحس بتحجر المشاعر اتجاهك، أو يدخل البعض حياتك ليكسر فيها ما هو جميل ويرحل ، توقف فورا وأسعد بمن بقي وانسى من نسي ولا تتألم ، لا تعش منتظرا لأحد ، فمن لا يعتبر وجودك مكسبا لا تعتبر غيابه خسارة لك ، هؤلاء يحرقونك حتى التفحم ولا يعجبهم سوادك ، يتجاهلونك وفي نفس الوقت يتلددون بتشضيك وعذاباتك . فلا تحزن على من لم يعرف قدرك ، لأن الأعمى حتى ولو لمس الجوهرة فإنه لا يستطيع أن يثمنها ، وبذلك يكون من حقك ان تغادر لان المكان لم يعد بمقاسك ، وحين تكون النار شعلة ، وقبل أن تصبح رمادا ، إذهب حيث يرتاح قلبك ، وتطمئن نفسك إذهب حيث ترغب أنت ، وحيث تشعر بالأمان والسكينة ، وحتى وإن أصبحت رمادا في نظر البعض فانبعث من رمادك كالعنقاء ، وكن جزءا من شيء يعجبك أنت وإن كنت فيه وحدك ، ولا تهتم بمن يحاول تقزيمك او حرقك أو يساهم فيه من قريب او بعيد ، بل اجعلهم يرونك مثل عود البخور ذي الرائحة الطيبة ، التي تعطر الجو وتنعش النفوس وتبعث على السكينة والأطمئنان . واعلم أن الحياة تصنعها المواقف ، بعيدا عن خوض أي معركة من أجل انقاد الشعور ، وتعلم الوداع لمن لا يستحق البقاء ، وتأكد من غلق الباب جيدا في وجه من أفحمك او رمى بك في موقد النسيان ، رفقا بقلبك ، لان الأذى النفسي أشد وأوقع ايلاما من أي ايذاء جسدي ، ولا تضع بنفسك شقوقا لا يمكن محوها ، ولا تحول ذاتك الى بركان للحمم ، فثمة معاملات تحدث أحيانآ لا يمكن اغفالها، لذلك غير مواقعك وتعاملك ، دون ان تتخلى عن مبادئك ومواقفك ، لأنها من تحقق وجودك ، فكم من شدة في الليل ضاقت وجاء شعاع الصبح بانفراجها . ويا نفس لا ترضي بالرمي في خزان الذاكرة عمدا ، وتصبحين شبحا مغطى برداء النسيان ، ولا تعاتبي من قرأت البرود في عينيه ، فالتجاهل بالتجاهل ولا الود لمن لا يهتم . وقديما قال جبران خليل جبران : 【 ابك على زمان قل فيه الأوفياء وحتى الاحباب ، وأصبح الكذب والغدر والنفاق اساسا للبقاء 】 .
ReplyForward |