المطرب فريد الأطرش و المطرب عبد الحليم حافظ
بين نحيب اليأس وشدو الأمل
بين….بين
بقلم: ذ عبد المجيد شكير
المنافسة الفنية بين الكبار ظاهرة طبيعية، والغيرة الفنية تغذي طموح الفنان، وتحفزه للمزيد من العمل والاجتهاد لكي يتفوق على منافسيه، ولكن ما حدث في مصر في الستينيات وبداية السبعينيات بين الفنانين الكبيرين فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ كان أكثر من ذلك، إذ تطور الأمر إلى صراع بين الاثنين، ووصل الخلاف بينهما إلى تبادل الاتهامات والتراشق عبر صفحات الجرائد والمجلات، وانقسم المتابعون من إعلاميين ومفكرين وفنانين إلى فريقين، فريق يؤيد هذا، وفريق يناصر ذاك، حتى وصل الأمر إلى السلطات العليا، فكيف تولد هذا الصراع؟ وكيف تطور؟ وكيف انتهى؟
مع بداية الستينيات بدأ الموسيقار محمد عبد الوهاب في الابتعاد عن الغناء في الحفلات، فخلت الساحة لكل من فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ليظهرا كأبرز مغنيين آنذاك، اعتمد عبد الحليم على صوته المفعم بالإحساس، وحرص على نجاح أغانيه بالتعاون مع أربعة ملحنين كبار يحملون روح الشباب وشعار التجديد (محمد عبد الوهاب ـ بليغ حمدي ـ محمد الموجي ـ كمال الطويل) فكان أن صعد نجمه وأصبح معبود الجماهير التي رددت أغانيه هنا وهنا ، وأما فريد الأطرش فقد ظل وفيا للغناء الكلاسيكي الذي بدأ به، بصوته النادر وبموهبته اللحنية الفذة وبعزفه المبهر على العود، كان مدرسة قائمة بذاتها، لها عشاقها وأنصارها منذ القديم، هكذا اشتعلت فتيلة التنافس بينهما حول لقب المطرب الأول في مصر، كان كل واحد يرى نفسه هو الأحق بهذا اللقب، فريد يرد ذلك إلى تجربته الطويلة، وتاريخه الحافل بالأمجاد في زمن العمالقة، وعبد الحليم يرى بأن الناس ملوا الألوان الغنائية التقليدية، ومتعطشون لألوان حديثة وجديدة جسدها هو في أغانيه، وهكذا بحث كل منهما عن طريق للتميز والتفرد ترفع من شعبيتهما، فنجد عبد الحليم يركز على الوطنيات حيث غنى لأغلب الأحداث الوطنية وعلى رأسها ثورة 1952 حتى سمي بمطرب الثورة )العهد الجديد ـ ثورتنا المصرية ـ احنا الشعب ـ المسؤولية ـ بالأحضان ـ يا أهلا بالمعارك ـ بستان الاشتراكية…( وغنى عن العدوان الثلاثي (إني ملكت في يدي زمامي ـ الله يا بلدنا …) وعن نكسة 1967 (بحلف بسماها ـ إنذار ـ اضرب ـ بالدم ـ بركان الغضب ـ ابنك يقولك يا بطل…) وعن السد العالي (حكاية شعب…) وعن حرب أكتوبر 1973 (عاش اللي قال…)، وعن افتتاح قناة السويس في وجه الملاحة العالمية (صباح الخير يا سينا ـ المركبة عدت…) وبالنسبة لفريد الأطرش نجده يوزع ألحانه على أشهر وأنجح الأصوات آنذاك مثل محرم فؤاد (يا وحشني) ومحمد رشدي (عشرية) وفايزة أحمد (يا حلاوتك يا جمالك) ووديع الصافي (على الله تعود) وشهرزاد (خد وهات) وسميرة توفيق (بيع الجمل يا علي) ووردة (روحي وروحك) هدى سلطان (أنا حرة) وفهد بلان (ماقدرش على كده) وصباح (يا دلع) وشادية (يا سلام على حبي وحبك)
وكان طبيعيا أن تستغل السنيما شهرتهما ونجاحهما الجماهيري لتسند لهما أدوار البطولة في عدة أفلام (31 فيلما لفريد الأطرش ـ 16 فيلما لعبد الحليم حافظ) ولكن السينما كانت إحدى القنوات التي فجرت الصراع بينهما، وهنا نذكر بحدثين، يرتبط الأول بالممثلة لبنى عبد العزيز والتي صرحت بأن عبد الحليم وبعد نجاح فيلميهما المشترك (الوسادة الخالية) مارس عليها ضغوطا شديدة لكي لا تمثل مع فريد الأطرش، وأما الحدث الثاني فلما سارع فريد الأطرش إلى التعاقد مع الفنانة سعاد حسني لكي تشاركه في بطولة أحد أفلامه السينمائية، وإذا استحضرنا قصة الحب التي جمعت بين عبد الحليم وسعاد، أدركنا أن مبادرة فريد تلك كانت ماكرة ولم تكن بريئة، وبمجرد علم عبد الحليم بالخبر، تعاقد هو الآخر مع سعاد على عمل سنيمائي جديد، ولم يكن غريبا أن يحدد الاثنان معا نفس الموعد لبداية التصوير لفيلميهما، فما كان من سعاد سوى التراجع عن عقد فريد، والتمسك بفيلم عبد الحليم والذي لم يصور هو الآخر، والأكيد أن الصحافة أججت هذا الصراع، ووجدت فيه مادة دسمة لجذب القراء، كما أن المقربين منهما ساهما في نقل الأخبار وتحريفها
ولكن يوم 26 أبريل سنة 1970 تاريخ لا يمكن القفز عليه في حلقات هذا الصراع، إذ أصر الاثنان على الغناء في ذلك اليوم إحياء لحفل شم النسيم (عيد الربيع) لم يكن المكان هو المشكل، حيث اختار كل واحد مسرحه الخاص، كما كان لكل واحد منهما فرقته الموسيقية وعازفوه الذين يصاحبونه، بل والمطربون الذين يشاركونه حفله، وبعضهم تعرض للإغراء والتهديد بسبب ذلك الحفل، والمشكل آنذاك يلخصه السؤال الآتي: حفلة من فيهما ستنقل مباشرة على الهواء في التلفزيون المصري؟ مع العلم أن الإمكانيات آنذاك لم تكن تسمح إلا بنقل حفل واحد، ولم يحسم الأمر إلا بتدخل الرئيس جمال عبد الناصر الذي أصدر الأمر بنقل حفل فريد الأطرش مباشرة على التلفزيون، وتسجيل حفل عبد الحليم حافظ على أساس أن يبث على التلفزيون في اليوم الموالي، اتسعت الفجوة بينهما، واشتدت الجفوة بينهما، فما كان من التلفزيون اللبناني إلا أن عقد جلسة صلح بينهما، وذلك في إطار برنامج (سجل مفتوح) أداره الإعلامي عادل مالك، خلال الجلسة تبادل الطرفان التقدير والاحترام لبعضهما البعض، وأكدا أن الكثير مما يشاع عن توتر العلاقة بينهما مختلق ولا أساس له من الصحة
هناك خط آخر في هذا الصراع، خط جسده مشروعهما الفني المشترك وذلك بأن يلحن فريد قطعة لكي يغنيها عبد الحليم، وقد أكد بعض المقربين بأن أغنية (نورا يا نورا) لحنها فريد في الأصل من أجل عبد الحليم، وعند اقتراب موعد التسجيل، سحبها فريد لكي يغنيها بنفسه، فهل كان فريد يخشى أن ينسب نجاح الأغنية إلى صوت عبد الحليم، ويتناسى الناس لحنه؟ وقع هذا الحدث في بداية الخمسينيات، ولكن المعروف أن فريد سعى فيما بعد سعيا حثيثا قصد التلحين لعبد الحليم، وهيأ له أكثر من لحن، ولكن عبد الحليم كان يتهرب، ولقد فسر العارفون ذلك بأن عبد الحليم كان يدرك بأن ألحان فريد بإيقاعها البطيء وطابعها الحزين لا تناسب صوته المليء بالإحساس ولا غناءه الرومانسي، وهذا رغم أن فريد فطن إلى هذه النقيصة في أسلوبه التلحيني، فحاول أن يتجاوزها وذلك بصناعة ألحان مرحة وخفيفة مثل (جميل جمال ـ دقو المزاهر ـ هلت ليالي حلوة ـ دايما معاك ـ فوق غصنك يا لمونة ـ لاكتب على أوراق الشجر ….) وعلى هذا المنوال أيضا جاءت أغلب ألحانه للآخرين
لم يكتب لمشروع التعاون الفني بينهما أن يرى النور، إلى أن رحل فريد الأطرش بتاريخ (27/12/1974)، وفسر عبد الحليم عدم الحضور لجنازته بتواجده آنذاك في لندن قصد العلاج، معترفا بندمه الشديد على عدم غناء ألحانه، حتى رحل هو الآخر بتاريخ (30/03/1977)
يقينا إن العلاقة بين فريد وعبد الحليم عرفت تموجا ما بين الهدوء والحدة، وهذا ما أثمر لنا روائع غنائية لا زالت محفورة في وجداننا، ومنقوشة في ذاكرة الأغنية العربية، فعلا فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ اسمان عصيان على النسيان