خواطر امراة
العبث مع المرايا
نحتاج في الكثير من الأحيان إلى هذا النوع من الخلوة والمصارحات مع أنفسنا، للمحافظة على استقامة تفكيرنا والانسجام مع ذواتنا ، وتبقى في جوهرها – هذه المصارحة – من المشاعر التي تحدث معي ، وحتى مع غيري . فاجدني أحيانا كثيرة اقبض على نفسي، أكلمها بصوت مرتفع كي أقنعها بأني بخير ، فتختلط عندي الصور والأزمات وتبدو أشرطتها بأشكال مختلفة ومسترسلة في ذاكرتي ، إلى درجة أني لم أعد اميز بينها كافكار ماضوية أو كواقع لحظي معيش، وقد أفقد القدرة على إعادة هذا التشظي أواعطائه نسقا يمكن أن يساعد على الاستحضار الواضح والمفهوم . فأنظر إلى المرآة فجأة ، واتتبع بلوراتها فأتطلع إلى وجهي الذي يحادثني همسا وحتى جهارا ، فاصرخ في صورتي قائلة : كوني نفسك ولاتكوني غيرها أيتها ” الثريا”، فاجدني هكذا مشدودة إلى صوتي وانا في قمة التعب…الألم تتقاسمني ثنائية الحضور والغياب ، وشيئا فشيئا يختفي صوتي أو افقده بدون وعي مني، ثم يأتيني ذاك الصمت ليرخي علي رداءه ويصير إرهاقي عائقا ذاتيا يمنعني من الصدح ببعض البوح والاعتراف بما يعشعش في الدواخل . ويبقى لتلك الحالة/ الوضعية ، الكثير من الصدى /الاصوات المزعجة لي أنا شخصيا بالأساس ، وتمضي علي فترة من الانتظار الصامت فأتطلع إلى المرآة من جديد، واتفحص من خلالها صورتي فتنهرني تلكم الأنا بالكثير من السخرية الكاوية ،
قائلة : ” أنت ليس أنا، وأنا لست أنت فانتبهي أيتها الثريا ” وسرعان ما يتلاشى صدى الصوت ويغيب ليحل محله صمت مطبق ، ومعبر عن كل المعاني التي تسكن دواخلي وتعجز حروفي الأبجدية عن استنطاقها او حتى تحريكها وتحويلها من حالة السكون الى الحركة ، فاجدني قد أغمضت عيني، وصرفت نظري عن هذه المرآة التي شغلتني وشدتني إليها أكثر من اللازم ، الى أن صارت ثقلا يضغط على صدري ويؤرقني . وفي أحايين كثيرة انسى أني أحدق في المرآة ، فتنقلني الصورة محلقة بي في عوالم الماضي القريب او بعيد ، المميز بأيامه الجميلة، ولحظاته المشرقة ، فيجتاحني الحنين والأشواق لأشخاص – ذكورا واناثا – ومن مواقع جغرافية متباينة ، تبعا لتاريخية عيشها ، أشخاص احببتهم وتقاسمت معهم الكثير من اللحظات الضاربة بعمق في جذور الصفاء ، فرسموا بدواخلي المعنى الحقيقي للحب والوفاء والمسؤولية والديمقراطية القائمة على الكرامة والإخاء ، فأدخل في حالات من الصفاء بعيدا عن كل أجواء ضبابية اواقع ملوث بالكثير من النواقص والسلبيات . و تبقى أحيانا كثيرة تلكم المرآة كفيلة بأن تجود علي بافكار تملأني مشاعر متدفقة من شلالات المحبة الصادقة ، التي تحيرني ولاأعرف كيف أصنفها ، ولا خانة تبويبها ، واعجز حتى على أن أعطيها أوصافا معينة ، فهي ليست من باب الغبطة ولا من اصناف الرضا ، كما انها لاتمت إلى القناعة في شيء ، فهي – ولاشك – مشاعر ذات صلة بالصفاء الداخلي ، والسلام المطلق ، فأنظر إلى المرآة وأنا راضية عني ، جميلةفي عيني ، وتزداد ثقتي بنفسي ، فتجتاحني الكثير من المشاعر، التي سرعان ما اترجمها إلى ابتسامات وبهجة يطير منها القلب فرحا ، ومن ثنايا بلوراتها يتطلع الي صوت هاديء قائلا : أنا لك يا ثريا فلا ترجعيني إلي ، كوني أنت فقط ، فأنت الدنيا وفيك ومنك الحياة. … الصفاء ….المرح …. المحبة …. وكل ما يدور في هذا الفلك الرحب والزاخر بالطمأنينة ، وتدريجيا تؤكد لي بان الحياة أجمل من أن اتأفف منها او اعلن عنها الحرب الباردة ، وارمم دواخلي دون أن انتظر اية مساعدة ، فأكون أنا بالصورة التي احلم أن اكون بها ، حتى وان لم يعجب ذلك كل الآخرين ، فتخاطبني قائلة في هدوء مطبق : أحبي نفسك ، أيتها ” الثريا ” من أجل نفسك ، تعلمي من سقطاتك المتتالية ، ومن كل ما يبقى منك بعدها ، انهضي …قفي…. ثقي بنفسك حتى لا تكسرك التجارب الفاشلة، أو ضربات الزمن ، ومحطات المرض والالم المتوالية ، التي حلت بك على حين غفلة ، وأنظري إلى الأنا التي هي أنت ، فأنت الاجمل حين تمتلكين الثقة . كوني مستكينة باسمة هادئة ، فالضجيج مؤلم . وكوني عطرة مشرقة فالظلام مهلك ، وتحاشي اواجعك وامشي مبتسمة سامقة كأنك نخلة في الاعالي ، فكل شيء يصبح جميلا حينما تريدين أن تريه جميلا ، وحتى وإن كبرت اوظهرت خطوط التجاعيد على وجهك ، وتغير لون شعرك فذاك لن يزيدك إلا نظارة وايمانا بأن الغد دوما سيكون احسن . وكم هو صادق ومنطقي قولهم : ( إلى مشى الزين يبقوا حروفو ) . وفجأة انتبه إلى المرآة وكلي ثقة على صورة المرأة التي أنا عليها ، او انا كائنتها وتفاجئني بصراخها قائلة : خذيني بصفتي أنا وراقبيني وأنا أمشي ، ها انا اسافر بعيدا في دروب ومحطات وفق خطوط زمانية متقاطعة ، ثم أعاوده النظر في المرآة ولا أعرفني ، فهذه الصورة ليست أنا أبدا ، صورة عجائبية أشعرتني بغربتي….. بتعبي …..بألمي ….بارهاقي المتزايد بالتفكير في : والدتي المريضة والمتعبة جدا ، بحكم توالي ضربات الزمن وقسوته عليها ، والبعيدة عني بحكم اقامة كل منا ، والتي ارجو من العلي القدير أن يمن عليها بالشفاء والمعافاة حتى تبقى تلك الدوحة المعطاء لنا جميعا ابني المشغولة عنه بالتفكير في مستقبله الحاضر / الغائب في هذا البلد الذي لا يعطي أية أهمية للشباب ، حتى ولو كانوا من حاملي الشهادات العليا ، وهو ينتظر بفارغ الصبر فرصة الهجرة الى العالم الاخر لتحقيق متمنياته وامانيه واحلامه صحبة رفيقة دربه الطويل ، والذي اتمنى ان يعمه الإشراق والطمأنينة رفيق دربي ،الذي نالت منه الايام وتعدد المهام التي تنقل بين دروبها ، وتضحياته الجسام في العمل الجمعوي بمختلف تلاوينه واشكاله ، المهنية منها والتطوعية ، دون ان تعترف له الظروف أو تجود عليه بالصحة والعافية والطمأنينة . أخي الذي غادرنا بدون وداع وانتقلت روحه في غفلة منا جميعا ،ذات يوم من أيام شهر شتنبر، لتعانق السلام الابدي ، بعد أن بقي طوال حياته يحلم بجدوى العمل السياسي ومصلحة المواطن اسرتي الكبيرة بعد غياب الوالد وانتقاله إلى عفو الله ورحمته دون اي أنصاف من هذا الوطن العاق ، رغم تضحياته الجسام في صفوف المقاومة والنضال الوطني من اجل الاستقلال ، وتشتت اخواتي واخوتي عبر ربوع الوطن وخارجه ، فصار من الصعب أن نجتمع أو نلتقي في منزل أسرة ال الطاهري عند ” سي احمد ” الرجل الصموت المتعفف والوديع الكريم . ثم سرعان ما استفيق من غفوتي ، وتفكيري الذي اعادني إلى الكثير من المحطات الماضوية ، حتى كدت أن اصير صورة لا ملامح لها ، من جراء دواخلي المثقلة بالهموم والتشظي ، ولم ينتشلني مما انا فيه ، غير صوت هاديء ينبعث من الأعماق يحاول ان يعيدني الى واقعي وانا شاخصة ببصري أمام المراة ، فأتأكد أن كل شيء يتغير ويصير الى الزوال . واحس فعلا أني أنا تلكم الطفلة والشابة المتقلبة جيئة وذهابا في دروب العالم ، أقف أمام المرآة اتأملها صورتي وينتابني الرضى عن نفسي متناسية مشاكلي ، همومي ، بعد أن انتقل بي تفكيري الي ركوب موجة التيه والسير في ممرات الحياة ومنزلقات دروبها وكلي فرح وابتسامة هادئة متمنية أن يدوم افتخاري بنسبي وعائلتي الصغيرة والكبيرة واعتزازي اللامتناهي بنفسي ، ويزداد حبي لشكلى وتعلقي به وسأبقى دوما انا في داخلي طفلة مهما كبرت، مصاحبة لزماني ، فخورة أنا بأني مشبعة بقيم المواطنة وغنية بقلب كبير لا ضفاف له ، الامر الذي يجعله رحبا ومتسعا لمحبة الاخرين ، وبالتالي اكون عاشقة للمرأة التي أنا عليها اليوم وسأكونها غدا ، وستبقى دوما أنا قضيتي الوحيدة ، التي تستمر سائرة على دروب تحدي كل الصعاب والعثرات ، جارية وراء تصيد الشفاء والمعافاة مما انا فيه من الآلام ، صانعة لنفسي كل الأجنحة الكفيلة بتجاوز كل المطبات والانكسارات والضربات وحتى الانحناءات
ثريا الطاهري الورطاسي