حوار مع الأستاذة سعيدة أملاح
يشدني الطموح لأشاغب فاطمة المرنيسي، وألتقط لحظات المخاض التي أسفرت عنها كتاباتها
في إطار الحوارات التي تنشرها “ألوان، نستضيف في هذا العدد الأستاذة العالمة سعيدة أملاح لنسلط الضوء وإياها حول محاور عديدة ، نترك للقراء فرصة متابعة اللقاء الحصري . سعيدة أملاح فتحت لنا بوابة عوالمها لنستضيفها
من أجل تقريبها بكل ماهي عليه . تعددت وتنوعت محطات حواراتنا ، فشملت نساء ورجالا ذوي اختصاصات مختلفة، اليوم في جريدة ” ألوان” نحط الرحال عند سيدة الإبداع ، ذات اختيارات متعددة ، ولجت عالم التعبير الرصين والثري المفيد الجامع ما بين اللغوي والديني والحقوقي ، بجمالية وسلامة أسلوب مرصع بالفصاحة والصدق والشفافية وهي التي كان لها شرف المشاركة في الدروس الحسنية الرمضانية بعرض حول : عناية المغاربة بلغة القرآن الكريم.إنها االدكتورة، الأستاذة، العالمة، والجمعوية سعيدة أملاح ، الحاملة للدكتوراه المهنية من كلية العلوم الإنسانية، تخصص الإرشاد التربوي بجامعة ميرلاند الأمريكية بالقاهرة والحاصلة على شهادة الأستاذية من نفس الكلية برسالة تحت عنوان : أثر القيم العليا التنموية لتحقيق استراتيجيات المملكة المغربية المستقبلية لعام 2040 دراسة تطبيقية
سيدتي الفاضلة : وأنت سليلة أسرة مراكشية الطبع والطباع ، ضاربة جذورها بعمق في صرح الفقه واللغة ، ونهلت من أحواض المعرفة المتاحة لك …حدثينا عن السيدة سعيدة أملاح بين الجذور والامتدادات ؟
أولا أعلن محبتي التي لا ساحل لها لكم وأنتم النخيل والقامات التي لا تشيخ ، وعلى كل من يشرف على هذه الجريدة السامقة ، وأنتم وأنتن مشعون بسخاء الورد والعسل
لقد كانت إطلالتي على الحياة أوراقا صفراء ومدادا وريشة في يد جدي من والدتي ، الشيخ العلامة العارف بالله “سيدي محمد بن عمر السملالي الإدريسي المراكشي ” علامة جامعة ابن يوسف بمراكش رحمه الله .إنها وقفة ذاكرة بين الرؤية والواقع، بين الحلم والحقيقة كُتُب هنا وهناك ، في فضاء رياض قديم يحكي تاريخا عريقا بطقوسه وعاداته وأعرافه، وتلكم هي أولى الصور التي تفتق فيها وعيي الشقي ، فرسمت أولى علامات استفهام ومنها وضعت سؤالي الوجودي البعدي
كانت تلك الجلسة مع بنات وأبناء العائلة أمام المرحوم والدي العلامة سيدي أحمد أملاح التي كان يحتويها بابتسامته الطيبة ، وأنا أنعم بقربه ، وظلت تلك النظرة الحانية معانقة لمسيرة حياتي، وزاد من ألقها حضور المؤنس الذي لا يخون ولا يمل ولايشكو وهو الكتاب ، انطلاقا من سماعه صباح مساء من فم والدي ، أو محفزات لي على قراءة كتاب الله والدربة على فهمه واستيعاب معانيه تقريبا للإفهام من قبل المرحوم والدي الذي كان يستثمر المعارف في المواقف التعليمية المناسبة ، تتخللها قراءة أولى للمتون نتغنى بترديدها كورد يومي . ما بين الألفية واللامية والأجرومية والخزرجية، ومتن ابن عاشر، ومنظومة السلم إلى غير ذلك من المتون ، وكان التباري لحفظها من اول الايقاعات التي نستقبل بها يومنا بعد صلاة الصبح . وكنت أتتبع مشدوهة بعض المناظرات والمحاورات وانا لم أتجاوز الرابعة وأعجب من طريقة والدي في احترام أدبيات الاختلاف وعدم تجاوزها نحو الخلاف . ورغم هذه التربية الصارمة في ظاهرها كان الترويح عن النفس من أهم أهداف الوالد ، الذي كان ييسر ذلك ويردد العبي ياسعيدة فلعب الصغار براءة
وفي حديث للأستاذة عن قولنا بأن المتتبع لمسيرتها العلمية واللغوية والفقهية ، سيكتشف أنها تميزت بالطموح والجدية منذ البدايات ، وأنه الأمر الذي أفضى بها أن تتبوأ مكانة تشرف كل امرأة تسعى إلى التواجد إلى جانب أخيها الرجل في الرقي بالفكر المغربي عامة . ولإماطة اللثام عن هذا الجانب الشخصي في مسيرتها المعرفية والحياتية ، تقول بأن أيادي الخير – بتوفيق من الله – ساهمت في توجيهها بدءا من مدرسة الفضيلة التي ولجتها في سن الثالثة مرورا بدار الرغاي ودار المنبهي ودار البارود ، حتى مرحلة وصولي إلى كلية الحقوق وجامعة محمد الخامس وكلية الدراسات العربية بجامعة القرويين . وكان الجلوس بين يدي أفاضل وطنيين وعلماء شوامخ أمثال الشيخ العاصمي وباقي العلماء أمثال جبران وعلال الفاسي والشيخ الناصري والرحال الفاروقي وعماد الدين وعبد الرفيع وحسن الزهراوي ، وأمجد الطرابلسي والبهبيتي والسنتيسي والراضي وغيرهم . وتضيف أنها عندما تجلس بين أيديهم تحس أن الله اصطفاها لان تنهل من القدوة الحسنة أولا ، ومن فيض علمهم ثانيا . وحيث لا يسع الحيز الزمني لان اذكر كل فطاحل العلماء ، فإن التاريخ يذكر أمجادهم ، وحتى من لم أذكر اسمه فهو حاضر في ذاكرتي احتراما وتبجيلا
وبالإضافة إلى أني عاشقة للكتاب باعتباره المعين الفقهي واللغوي والأدبي ، فقد قرأت عن الثورات الإنسانية وعن الفكر الشيوعي وعن الأدب الفرنسي ، وكان ذلك التراث الإنساني بجوار فراشي أعيش معه في علاقات حميمية نفسية، منبهرة بتنوعها وجهود علمائها والتفاتاتهم الراقية بالابتلاءات التي طالت عباقرة مختلف العصور وزادتهم تشبتا بالعلم وتحقيق وإثبات للذات
وفي إطار حديثها عن الانشغالات والاهتمامات التي تجعلها تنفتح على مؤسسات المجتمع المدني فاعلة ومنفعلة ، ترى بأن الانفتاح على مؤسسات المجتمع المدني يعود الى تاريخ انخراطها في جمعية صدى حواء التي كانت تتحمل مسؤولية الكتابة العامة فيها الشاعرة المتألقة مليكة العاصمي ، وبعدها جمعية حماية الأسرة فديوان الأدب الذي جمع متفرقات من حيث التخصصات والباحثين والأكاديميين والعلماء ، فكانت موضوعاته تكتسي أهمية قصوى مع مراعاة الاختلاف. وكانت جلساتنا في المقهى أو إحدى الرياضات الأثرية فرصا سانحة للمناقشة والعرض والتقييم ، وفيها قرأت كتاب الإشارات الإلهية من جديد بنفس علمي قوي ، وكذلك قرأت “نحو القلوب” للإمام القشيري و”تراث المهدي بن تومرت” ، الذي جعلنا مسجده يشمل أرضية للمناقشة والمحاورة، تحضره العديد من القامات الثقافية كالدكتور بنشريفة والدكتور أحمد التوفيق والعديد من الفعاليات فأضحت متعة فكرية لا يمكن وصفها . كما ازدانت مسيرتي الجمعوية بالانخراط في جمعية التربية على حقوق الإنسان بمختلف مناضليها من الأساتذة والأستاذات أمثال : عنقا الادريسي ومصطفى القرموني والعربي مكتفي واحمد سهوات والمرحوم عمر فحلي و دنيا الأندلسي والكبيرة شاطر والمرحومة زحال لطيفة وغيرهم كثر . وللإعتراف أقول بأن العمل في هذه الجمعية قد أحدث منعطفا جادا في حياتي، رغم أني كنت قد تلقيت تكوينات سابقة في هذا الشأن من جمعية أمنستي. وأعتز كثيرا بكوني من ضمن أعضاء هذه الجمعية ذات الإشعاع اللافت عبر امتداد رقعة الوطن وحتى خارجه . وما انخراطي في جمعيات أخرى كجمعية الأساتذة العاملين بالمراكز التربوية الجهوية ، وجمعية الكولزيوم القصصي، إلا امتدادا لتفعيل تلكم الممارسات التربوية الحقوقية
وفي انتقال منا للحديث عن المجالس العلمية بالمملكة تستوقفنا سياسة التأنيث المتبعة ، الأمر الذي دفعنا إلى أن نطلب من الأساتذة أن تحث قراء الجريدة عن الأدوار التي يمكن أن تلعبها المرأة في هذا الإطار بصفة عامة فقالت بأن المرأة المغربية أثبتت ريادتها المجتمعية وفاعليتها بقوة ، لما شرفتها الإرادة الملكية بالتعيين داخل هذه المجالس لمرافقة الرجل في مسيرته العالمة في الشأن الديني ، كواعظة ومرشدة وعالمة وفاعلة وجعلها مُبَاشِرة
في الفعل الديني والمجتمعي بامتياز ، من انشغال في المحاضرات والأنشطة الفكرية والمحترفات والدروس الدينية والتكوينات ومحو الأمية وتتبع الحركات المشبوهة وما إلى ذلك ، وفي خلية المرأة وقضايا الأسرة ومن خلال مراكز الإنصات والتقييم والكراسي العلمية والفتوى والدروس الحسنية ، منذ سنة 2004 والمرأة ترتقي في هذا السلم الراشد منفعلة وفاعلة
وفي قولنا لها انا نستسمحك بالعودة إلى الدرس الديني الرمضاني حول اللغة العربية ، راجين إنارة قراء الجريدة عن حكايته ، فإنها تقول بتشرفها بالجلوس في مجمع فكري يحضره ثلة من علماء العالم ويرأسه جلالة الملك
مجلسه يهابه المتموقع فيه ، وقد أُكْرِمْتُ بالتحدث فيه عن مجموعة من الأعلام الذين عنوا باللغة العربية ولغة القرآن الكريم، وتناولت على سبيل المثال لا الحصر ابن اجروم والجزولي واليفرني والكنسوسي وقوفا عند المدارس العتيقة ودورها الريادي كما جعلت محور موضوعي المختار بعناية التوأمة بين اللغة العربية واللغة الأمازيغية وتلازمهما . ويبقى من الصعب الإحاطة بهذا الدرس ، وخلاصة القول أن اختيار هذا الموضوع يعززه إيمان قوي
بقناعاتي أن الأمازيغ قد أبلوا بلاء حسنا في هذا الشأن بجوار العلماء العرب من الفضلاء . وأود أن أشير هنا إلى أني أتممت حاليا كتابة هذا الموضوع في مجلدين وسيرى النور قريبا
وفي حديثها للجريدة عن ما بقي عالقا بذاكرتها عن الفعل والاهتمام البيداغوجي المرتبط بشعبة اللغة العربية بمركز تكوين الأساتذة بمراكش وهي المتقاعدة حاليا ، قالت : لقد آثرتم شجيتي وأنا العاشقة للغة العربية ، المهووسة بالفعل التربوي ، وذكرتموني بأحلى مراحل عمري وأنا الشابة والناضجة والمشلولة لمدة سنتين والحاملة للعكازين ، لإتمام مسيرتي التربوية والتعليمية ، لقد عشت بين أحضان اللغة ، أرشف معتقها واتضوع أريجها لسنوات طوال وأزداد عشقا لها في تحليل النص اللغوي الذي أجد فيه نفسي، وفي النص القرآني أسرح في جنتي ، عاشقة أنا حتى الثمالة لضروب الكلم وإغراء البيان وروعة ومطابقة المقتضى والغوص في أمواج مستويات الدرس اللغوي، صوتا وصرفا ومعجما ونحوا وبلاغة وبيانا ، وقد شرفت كذلك برئاسة شعبة اللغة العربية لسنوات إلى أن غادرت إلى فرنسا لإجراء عملية جراحية في القلب ، ولأغادر العمل مغادرة طوعية . ومما هو عالق بذاكرتي أني عشت هبة إلاهية لمدة سنتين ، عانقني فيها الشلل النصفي وجربت آلام المرض الخبيث وأتذكر بمرارة المرض الخبيث ، فيوم أخبرت به جمدت دمعتي واحتفظت بها ، وتذكرت لحظتها كم من الكتب لم أقربها في خزانة والدي رحمة الله عليه ، وكم أنا مقصرة اتجاهها ، فرجوت الله بعيني شاخصة وقلب حزين أن يطيل عمري حتى أستطيع لمسها والاقتراب منها من جديد . ومع العلاج الكيماوي استبقت الزمن نحو الشفاء : فإذا مرضت فهو يشفين
أما عن سؤالكم عن أين وصل مشروع التحقيق المتعلق بالتراث الفكري للوالد المرحوم سيدي أحمد أملاح . فأقول بأن مخطوط الوالد في اللغة مستعص شيئا ما وانا لم أتممه بعد . أما مخطوطة باسم الله الرحمان الرحيم ، فهي قيد الطبع في الديار المصرية ، وستشرق شمس الخامس والعشرين من هذه الألفية عليه ، ليكون في المكتبات رهن إشارة الجميع
قبل أن نختتم هذه الجلسة الفكرية الماتعة والمليئة بالحنين والذكريات ، نريد من الأستاذة الكريمة أن توضح لقراء جريدة “ألوان” ، إلى أين وصل مشروع الاشتغال على تراث المفكرة المغربية فاطمة المرنيسي ؟
تقول بأنها معجبة بتراث المرنيسي الحاضرة بقوة وفاعلية في علم الاجتماع ، والحقوقية الألمعية المنصفة ، ولكل ذلك يشدني الطموح لأشاغب إنتاجاتها وألتقط لحظات المخاض الذي أسفرت عنه كتاباتها .وهذا جميعه يعطيني مشروعية محاورتها من خلال انتاجاتها العميقة والمشرقة ، متسلحة بالزهيد من المعرفة الحقوقية والتربوية ، عساني أرقى في محاورتها لإدراك بعض من تجربتها الذاتية في هذا المجال ، وأعدكم بأنني سأتمم ماكنت قد وعدتكم به – حولها – في أقرب الآجال