الأديب المغربي عبد الرحمن بوطيب في لقاء حصري لألوان
أنا سجين قفص رعشة اللحظة
المصالحة مع اليراع لم تتم إلا وقد سكن الطفلُ المشاغب جبةَ ملاح عجوز
استضفنا ونستضيف في جلساتنا الحوارية التي دأبنا عليها ، بحيث عززتها الكثير من الوجوه المبدعة ، واليوم نتشرف في جريدة “ألوان“ بالحديث مع الأديب المغربي والأستاذ عبد الرحمان بوطيب ، وهو الطفل المشاغب في جبة الملاح العجوز ، الدائم السفر والتحليق بين منحنيات ابداعية متنوعة ومتكاملة تمتد من الشعر الى القصة والنقد و اهتمامات أخرى . الأستاذ بوطيب هو المدير المؤسس لمجموعة الرؤى العربية بكل تلاوينها وتشعباتها المعرفية . ناهيك على كونه الأديب والشاعر العاشق لقصيدة النثر الحداثية والذي في رصيده الابداعي العديد من المنشورت الشعرية والنثرية والنقدية ، موزعة مابين الأنسكلوبديات والأنطلوجيات الدولية ، وهو أيضا صاحب العديد من الأعمال الشعرية والسردية والنقدية التي سترى النور لاحقا لأنها قيد الطبع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حدثنا بداية عن الطفل المشاغب في جبة الملاح المغربي الطيب. كيف كانت البدايات مع الحرف والكلمة والإبداع بشكل أدق؟
:قبل البدء
أتقدم بالشكر الواجب النابع من الأعماق للأستاذة زهرة منون ناصر، الإعلامية المثقفة، المديرة العامة لجريدة “ألوان الرقمية” الرائدة، السابحة بعمق واحترافية في فضاءات الثقافة المغربية، والعربية والدولية من بلد المهجر/ كندا ، والشكر والتقدير موصول لكل أعضاء الطاقم الإداري ل: ألوان
سعيد بحضوري المتواضع بينكم، وعسى أن أتمكن من الهروب منكم إليكم في هذا الحوار الثقافي العميق حول ذات تبحث عن ذاتها
:عوداً على بدء
حديث الذات عن الذات… سؤال حارق، فهل من جواب؟
هو “الوجع / السؤال”، وما بالإمكان القبض عن ذات متشظية تبحث عن حقيبة تلم فيها متفرق متشظيات… ذات متعطشة للقبض على جواب لسؤال وجودي، حارق، متجذر في عمق تربة البحث عن كينونة الإنسان
نولد صفحة بيضاء، ويولد معنا “السؤال” عن الذات والأحوال… نتقدم في العمر، قد نسقط في شرك “البحث عن جواب” فنشقى، وقد نعيش إما كائنات عاشبة، أو لاحمة… فيضيع خيط الخياط في ثوبه ذات لحظة تفكير في جواب عن سؤال، أدرك أنه ريشة في مهب رياح، تارة – لحظة شك – تحملها إلى كهف.. جواب لا يخرج عن حدود هم القائل “جئت لا أعلم من أين…”، وتارة – لحظة إشراق – تحملها إلى معبد صوفية حلاجية هاربة من سؤال إلى سؤال… وقد قال الملاح العجوز على لسان طفله المشاغب الساكن أعماقَه
ما كان لي مُبْتَدَا
لا منتهى
لا مآل
لم الابتداء بلا اختيار بملء ابتلاء
لم الانتهاء
هو القرار
انتهاء
ذاك سؤال ينسخ السؤال
سَفَرٌ عقيمٌ يُكْتَبُ سِفْراً على أوراق ذابلات وقصيدة طويلة متعبة بلهاء: (من قصيدة “سؤال” الطويلة المتعِبة)
طاوع ذاته الباحثة عن ذاتها مرة، فما وجد غير هذه الصيغة الهاربة من حد سؤال إلى حد توهّم جواب
عبد الرحمن بوطيب: طفل مشاغب في جبة ملاح عجوز، يسافر هارباً من ذات وموضوع، عرضَ غرب المتوسط في “أشيلوسه” التي سرقها من مبدعها السامق “عبد الرحمن منيف” في شرق متوسطه
:البدايات مع الحرف والكلمة والإبداع
– إن كانت هناك بدايات وامتدادات ذات قيمة اعتبارية – ليس من السهل القبض عليها… الذاكرة مشروخة، والسقوط في لعبة “السيرة” هو نوع من السقوط في شرك “الكذبة /السيرة”… لكن، لا مفر من محاولة السقوط في هذا الشرك الاسترجاعي بعميق ألم أتذكر أول تجربة لي في الكتابة، كانت تجربة كتابة أول قصة قصيرة، تحديداً في بداية السبعينات من القرن الماضي، وأنا آنذاك معلم مؤقت، قصة رعاها أخي الراحل صديق الطفولة والشباب المرحوم مصطفى المسناوي، تتبع معي مراحل إبداعها بشكل غير جارٍ على مألوف أشكال تعبير قصصي، نشرها لي في جريدة “الاتحاد الوطني”، وضاعت مني كما ضاعت فرصة مواصلة إبداع في دروب حياة تكرست للتعليم ، ومجريات هامش من سقط متاع دنيا ومتعة طائشة. تقلّدي شرف رسالة التعليم، بمختلف الأسلاك التعليمية الابتدائية والمتوسطة والعليا، مدة تزيد عن نصف قرن ساعدني على الاحتكاك بعوالم الثقافة… ففضل رسالة التعليم عليَّ كبير
المصالحة مع اليراع لم تتم إلا وقد سكن الطفلُ المشاغب جبةَ ملاح عجوز على خمس وستين عاماً بالتمام والكمال، هجرة حروف لعقود من رحلة تعلم في متاهات حياة سقطت في “يم أزرق” مغرٍ بسباحة لذيذة، لم تكن مقصودة لغاية معانقة إبداع… لكن اليم الأزرق لا يرحم، وها هو الملاح العجوز بعد عشرسنين من سباحة مضنية ما انفك يبحث عن جواب لسؤال… بكل ما يخطر بالبال من أشكال تعبيرمتواضعة، عسى ألّا تُخَيِّبَ ظَنَّ متلقين كرام
كتبت الكثير في القصة والقصيدة، هل من الممكن أن تقرّب القارئ والمتتبع من عملية الكتابة في عالمك الخاص؟ متى تكتب؟ وكيف تكتب؟ ولمن تكتب؟ ومتى تكتب القصيدة؟ ومتى تتحول لكتابة القصة؟
هي غواية تجريب : نحن عادة لا نختار أساليب التعبير عن ذواتنا في مشاعرها ووجدانياتها وأفكارها وقناعاتها إلا في حالات خاصة لا تعمم… المبدع الحق تبدعه تجربته، ولا يبدعها، هي التي تختار له المناسب من محمولات مضامين، والمناسب من أشكال تعبير، والمناسب من أوقات تفريغ… لا أدعي أنني مبدع في كل الأحوال…درجة الوعي في الكتابة مطلوبة وحاضرة مع الكبار الخالدين، وهي غير لازمة في كل الظروف والمواضعات، قد “تسقط” علينا شظايا الإبداع في حلة “تفاحة نيوتن” فنصيح من أعماقنا: “وجدتها… وجدتها”… … والحكايتان معلومتان
لست مبدع تعبيراتي المتواضعة، أنا إنسان بسيط يرشح بما فيه – على تواضع- بكل الارتجال، وبكل العفوية… لست من أهل مدرسة “الحوليات” الكرام… الارتجال يسكنني، تحملني الفكرة بشكلها الذي تختاره هي، في وقتها الذي تختاره هي، فأسرع إلى جهازي الالكتروني أغازل مفاتيحه بسرعة جنونية كي أتخلص من الدفقة التعبيرية… (لا أدري كيف هجرت القلم والورق مع أن عشقي لهما لا يزول… مؤكد أنه سقوط غير محمود في مصيدة رقمنة)… أرتاح مع ارتياح لوحة المفاتيح… ولا أراجع ما رشح مني رغماً عني إلا لغاية تدقيق لغة… هذا أنا، عفوي لحظي ارتجالي… صرت أرقص على عزف لوحة مفاتيح في جهاز إلكتروني مجنون… فهل هذا التسيب يحسب إبداعاً؟
إيماني البسيط بغواية التجريب، الذي لا حدود لدهشته، هو مغامرة بالسباحة في كل قطرة ماء طاهرة، ومنها السباحة في عوالم قصيدة المرحلة / قصيدة الدهشة… قصيدة النثر الحداثية التي كان لي شرف تأسيس مجموعة شعرية نقدية تحتفي بها، مع مجموعة طيبة من الشعراء والنقاد العرب الكبار الذين أعترف لهم بالفضل الكبير، هي “مجموعة تأصيل قصيدة النثر الحداثية”… أنا مهووس بهذه القصيدة الممكنة المستعصية التي تسكن كياني، ولا تغادره
الهروب من الشعر، إلى القصة، إلى الشذرة، إلى الخاطرة، إلى الحكاية، إلى القصة… إلى النقد ليس بيدي… أنا سجين قفص رعشة اللحظة… سجين يحاول الهروب من قبضة أجناس… تعبيراتي محكومة باقتراف جريرة السقوط في أحضان عديد معشوقات… عسى أن تسقط منهن معشوقة ييوماً ما بين الأحضان الواهية… لا أدعي لي صفة من صفات “مقدسة”… إن أنا إلا لحظة تعبير، وقد تكون خائنة
حدثنا عن اقتحامك الجميل للمجال الثقافي الذي اتسعت دائرته لتصل إلى المشرق وإلى مبدعين من عديد من أقطار. اقتحامك الجميل… الذي اتسعت دائرته من خلال علاقاتك المتعددة مع أدباء من كل الأجناس
وصف شاعري عميق، وتوريط لذيذ… ويبقى السؤال بصيغة أخرى: كيف اقتحمني المجال الثقافي، وكيف رماني في بحور محيط مغربي عربي عالمي لنخبة مثقفات ومثقفين أكن لهن ولهم صادق محبة وتقدير
بكل بساطة عليلة، أو تعقيد نَدِيّ، فَضْلُ “مجموعة مجلات الرؤى العربية للإبداع والنقد” الخمس عليَّ فضل عميم لا ينتهي… وقبله فضل شرف تحمل مسؤولية إدارة مجلات عربية شقيقة كبيرة رفقة أخوات وإخوان عرب كبار وضعوا ثقتهم في، لهم المحبة والتقدير من قبل ومن بعد
الرؤى: تسكن أعماقي بجمال حضور رائداتها وروادها الكبار… وما أنا إلا رفيقهم البسيط في درب بناء صرح منبر جودة وتميز يصارع طوفان رداءة وضحالة وسفاهة… يكاد أن يضيع معها خيط خياط في ثوبه… ونصمد، نحاصر الحصار، نقاوم ولا نساوم… إلى آخر قطرة حبر و دم
:تسعدني، وتشرفني، بقدر ما تخجلني كلمة أخينا الفاضل الأديب المتعدد الخلوق العميق الأستاذ “نورالدين حنيف أبو شامة” في حق “الرؤى” بقوله
(أبدع “الرجل” مجلّة (الرؤى) في تشكُّلها المتعدد والمتنوع. والمتنوع في تشكُّلها المتعدد والمتنوع والصادق والناكر للأنا. أستقبل في هذه المجلة علامات وفعاليات ثقافية مغربية وعربية وإفريقية، وأقسمَ أن يفتح مصاريعها على الكوني حتّى لا يخنقها حبل المحلية والإقليمية، فأنتجتْ عوضَ التراكمِ الأدبيّ فلسفةً في البذل والعطاء والإشعاع والإشراق
امتدّتْ المجلّة عبر رؤية صاحبِها القائمة على اختيار الأجود والأجدر والأعمق والأفضل في إبداعات المبدعين في غيرِ تحيّزٍ أو اعتبارٍ ذاتيّ أو شرط مُغْرِض. امتدّتْ حتّى شملتْ، ولمّا شملتْ أقامت الأنشطة الثقافية على قدمٍ وساق، وأشعلتْ فيها نار الإدهاش، في تصوّرٍ يؤمن بفكرة النقاء
أشهدُ وأنا الّذي رافقتُه في مشوارِهِ الافتراضي والحضوري والميداني أنّه رجلٌ لم تدعمْهُ مؤسسة أوجمعية أو جهة من الجهات أو فرد من الأفراد… كان يمدّ جيبَهُ إلى مقصلة العطاء بغايةٍ واحدةٍ هي أن ينجح الإبداع وتنجح الثقافة، كان كريماً لا يعرف للسخاءِ حدّاً ولا يكرمُ لغرض الشهرةِ أو حبّ الظهور، وكانتْ يده القوية هي مجلّتُه الأقوى
مقتطف من رسالة منشورة بالفضاء الأزرق / نور الدين حنيف أبو شامة
ما هي أجمل وأقرب الكتابات التي لها وقع خاص لديك؟
لا تفاضل في قيمة اعتبارية بين شكل من أشكال إبداع، أو بين مدرسة من مدارس نقد… التنوع تعبير مشروع عن تمظهر الواحد في المتعدد، وتمظهر المتعدد في الواحد… العطاء الفاعل تشكّلٌ لإنسان ووجود وكيان… كيان خاضع لحتمية تطور إنتاجي أدبي وفني متساوق مع تطور كوني فيزيائي… لا قدسية لنموذج… ودوام الحال من باب المحال…شخصياً، أنا مهووس بقصيدة النثر الحداثية الممكنة المستعصية التي تسكن كياني، ولا تغادره… قصيدة تسعى إلى تكسير ما وجب في حقه تكسير… على كل المستويات… وأعشق القصيدة الموزونة وأحترم شعريتها الأصيلة. السرديات تأخذني إلى حضنها المدهش بانفتاحه على التجريب الكائن والممكن… وللنقد عندي مكانة خاصة… لامتلاك بعض الأدبيات النقدية تنظيراً وتطبيقاً ــ مع آليات اشتغال المناهج النقدية ــ دورٌ كبير في الدفع بالتجربة الإبداعية الشخصية لديَّ . النقد رافعة أساس لتطوير الإبداع، وهما وجهان لعملة واحدة، وقد تَرَسَّمْتُ طريقي ــ بكل تواضع ــ بين حد الإبداع وحد النقد لأشبع ذاتي بهم البحث عن “جواب” ممكن بعيد المنال عن ذاك “السؤال” ، ما زلت في بداية الطريق أبحث
من جهة أخرى، أعتقد أنني دوماً من الداعين إلى ضرورة تسلح المبدع بجهاز نقدي عام، وجهاز نقدي خاص يدور في فلك تخصصه
أشعر بالحرج الكبير عند محاورة مبدعين لهم الكفاءة المشهود بها إبداعهم، لكنهم يضعون الحدود الفاصلة، عن حسن نية وبراءة موقف، بين حقل الإبداع وحقل النقد، فيبتعدون. شعاري الذي أرفعه دوماً في كل المقامات هو “المبدع الناقد / الناقد المبدع”… تكامل لازم، ولا يشترط وجوب تخصص المبدع في النقد ليصبح ناقداً، لكن العلم بالشيء خير من الجهل به على حد رأي أهل المنطق
هل تفكر في إصدارات جديدة بعد التجارب السابقة التي تنوعت ما بين دواوين شعرية ومجموعة قصصية، وسيرة روائية، ونقدية وغيرها؟
بكل صدق وصراحة، الكائنات الورقية لا تزال في قعر حقيبة، لا تقوى على خروج إلى عالم الواقع… أتهيب نشر ما لم أقتنع بجدواه أنا بعد… أومن بأن شرط الظهور هو القدرة على إنتاج قيمة نوعية مضافة… ما الفائدة من تكرار ومراكمة نفس الأصوات في جوقة عزف “قدسي”… النشر مسؤولية جليلة، ولا داعي لتكريس ممارسة غواية النشر من أجل النشر… أو مسايرة إيقاع ما بحثاً عن شهرة ما… أقف احتراماً لكل الأقلام التي تبهرني بسحر الجديد الهارب من رتابة صباغة بنفس الألوان… التميزحياة… التشابه موات… الإبداع خرق للمألوف… ولا بقاء إلا للنقاء… وما في الحقيبة بعدُ شيء يستحق الخروج إلى ضياء على صفحات بيضاء… اليم الأزرق متنفس… ولو أن موقفي الصريح لا يرتاح إليه عديد أصدقاء أوفياء… على العموم، ندعها حتى تنضج… وتقع
: لنبتعد قليلاً عن الكتابة وندخل عالماً آخر
أتخاف الموت؟
لم لا؟
طفل مشاغب يسكن جبة ملاح عجوز لا يرضى أن يشيخ ويموت قبل أن يرد لهذه الحياة بعضاً من عطاء… ولو أنه عطاء ليس دوماً كما هو المراد… المستسلمون الراحلون بصمت لا يخلدون… الخالدون مشاغبون… رافضون التنميطَ والتحنيط… كلنا نعشق الخلود… وما هو بالإمكان السهل في هذا الزمان؟
!الخائب
هل من حدث سلبي جعلك تغتاظ من شيء أو شخص ما بلا تحديد للحدث عينه؟
الحياة مواقف وتجارب… وما أنا عنها بمعزل… بكلمة واحدة، أقول عن نفسي: أنا المخطئ، ومني في كل المواقف اعتذار… ولو بصمت دون إجهار… شيخ مسالم يرغب في رحيل دون إضرار
ما هي وصيتك للقراء والمبدعين الشباب؟
هي رجع صدى وصايا سادتي معلميّ الكرام، رحم الله من غادر منهم، وأطال عمر من لازال على قيد حياة، صغيراً كان أم كبيراً… أتعلم من الطفل ومن كل أشكال تمظهره السّنِّية… الوصايا مختزلة في كلمتين محصورتين بين ربضين: تعلمْ، وكنْ ذا أخلاق… أعط بعد أن تأخذ… الأخذ حياة… العطاء خلود
: كلمة أخيرة
فتحت سيدتي الكريمة عليّ جبهات بوح لم أجرؤ على الوقوف عند مشارفها… لك التقديروالاحترام والمودة… ول ” ألوان” الرائدة دوام الإستمرار والإزدهار