جميلة بوحريد: تطريزات تاريخية ( 2 )
جميلة بوحريد: أيقونة المقاومة التي لم تخن الوطن
كثيرة هي الشخصيات التي ساهمت في صنع تاريخ البلدان في العالم، واستطاعت ترك بصمتها، و نقشت إسمها اما بأحرف من ذهب أو بالدماء، ذلك هو حال شخصيات كبار نحتت أعمالهم تاريخ السياسة، وبذلك فهي لن تمحى ولن تزول أبدا. وقد ارتأيت أن أحط الرحال عند اسم كبير في تاريخ المقاومة، إنه للسيدة : جميلة بوحريد
ولدت جميلة بوحريد من أب جزائري وأم تونسية في حي القصبة عام 1935، وهي مناضلة جزائرية كافحت من أجل دحض الاستعمار الفرنسي الذي عمل على خنق الشعب الجزائري، وفرض عليه العبودية لتحقيق رغبة الطغاة الكولونيالين في جعل الجزائر جزء من فرنسا
فبعد أن اندلعت الثورة الجزائرية عام 1954، سارعت جميلة إلى الانضمام إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية، بهدف النضال ضد الاحتلال الفرنسي وهي في العشرين من عمرها، بحيث التحقت بصفوف الفدائيين، وكانت أول المتطوعات مع المناضلة جميلة بوعزة، وفي يناير 1957 ابتليت الجزائر بوصول الإرهابي العنصري الجنرال (ماسو) على رأس الفرقة العاشرة من قوات المظلات، فحاصر حي القصبة وعزله عن المدينة بالأسلاك الشائكة، فسقط الكثير من الشهداء والمدنيين تحت وطأة أبشع وسائل القمع والإرهاب، وكانت أوامر الجنرال ( ماسو ) لجنوده تتلخص في قوله: اقتلوا الرجال والنساء والأطفال، فلا رحمة ولا شفقة أبدا
كان منزل جميلة بحي القصبة حيث اقتحم رجال المظلات البيت، إذ أذاقوهم أبشع أنواع العذاب باحثين عن القنابل، فبدأ التعذيب بالطفل (هادي ) شقيقها الصغير، بوضع رأسه في إناء كبير مملوء بالماء، وكلما أشرف على الموت أخرجوه ليعيدوه إلى الماء من جديد حتى يفقد وعيه
(وفي احدى صباحات شهر أبريل من عام 1957 كانت (جميلة ) تسير في الطريق، فرأت جنود المظلات يتحرشون بالمارة، فأسرعت الخطى لتتجنبهم لأنها كانت تحمل رسالة إلى (يوسف سعدي قائد جبهة التحرير في العاصمة، فتبعها المظليون وأطلقوا عليها وابلا من الرصاص، ومرت رصاصة غاشمة من ظهرها لتنفذ من الصدر
وعندما سقطت أرضا تنزف دما ، ألقي القبض عليها لتبدأ رحلتها القاسية مع التعذيب داخل المستشفى العسكري، والمتمثل في الضرب والسحب من الفراش والالقاء أرضا وخبط رأسها بعنف وهم يصرخون : تكلمي ، قولي أين سعدي؟ ومن بين شفتيها لا يسمعون إلا : لن تصلوا إليه
ومن تمت بدأت فبركة التهم لتقديمها أمام المحكمة العسكرية وبالتحقيق معها على أساس تهم مفادها أنها وزميلاتها وضعن القنابل التي انفجرت في “الميلك بار “ومقهى الكافيتريا”، حيث قتل عدد من الجنود الفرنسيين، وكلما ازدادت عمليات التعذيب لتعترف، كانت إجابتها مركزة في قولها : “أنا جزائرية وسأموت من أجل شعبي”، بعد ذلك نقلوها معصوبة العينين إلى مكان آخر، وجردوها من ملابسها أمام الجنود، واوصلوا التيار الكهربائي الى كل اطراف جسدها بما في ذلك الأعضاء الحساسة، ورغم ذلك فشلوا في إرغامها على الإعتراف، ولم يكن أمامهم إلا أن كتبوا اعترافاعلى لسانهم لإثبات التهمة أمام المحكمة العسكرية، وحين انتقالها إلى السجن المدني طلبت من القاضي أن يطلب من طبيب السجن بفحصها ومعاينة آثار التعذيب الوحشي على جسدها، وفعلا تولت الدكتورة (جانين بلخوجة ) الكشف عليها حيث وجدت جروحا ينزف منها الصديد أسفل الصدر والكتف ،مع شلل بالذراع الأيسر وبقع داكنة حول الأنف والأذنين والشفتين
لقد ظلت جميلة صابرة لا تستسلم ولا تعترف إلى أن كشف محاميها (جاك فيرجس ) – الذي سيصبح زوجها – قضيتها التي أصبحت فضيحة عالمية بعد أن تلقت صحيفة “لورور” الفرنسية نسخة من التقرير ولفتت محاكمتها الرأي العام العالمي، وعندما مثلت أمام المحكمة الهزلية، واجهت القاضي وهيئة المحكمة وممثلي الادعاء والضباط والمظليين صارخة
إن الفرنسي الذي قتل بقنبلته خمسين جزائريا في حي القصبة لم ينل أية عقوبة، بينما تحاكمون فتيات وطنيات بتهم ملفقة وتذيقونهن كل ألوان العذاب
كانت المحاكمة رهيبة ، وكل من توقعوا أن تأتي شهادته مؤيدة لبراءة المتهمة تخلصوا منه بالقتل قبل وصوله إلى المحكمة، حتى محاميها الذي تطوع للدفاع عنها طرد من المحكمة من طرف الرئيس لمنعه من المرافعة، بل أحضروا إحدى زميلاتها من السجن بعد ان سببوا لها الجنون فراحت ترقص وتحرك يديها كأنها تحمل مدفعا رشاشا وحين سألها رئيس المحكمة: ألم تعترفي بأن (جميلة ) ألقت القنابل؟ ف كان ردها الصراخ والصراخ والصراخ ب(تك…تك…تك..) فابتسم القاضي قائلا: إنها تؤيد الاتهام، لم تجد (جميلة ) إلا أن تهتف في وجه المحكمة “أعلم أنكم ستحكمون علي بالإعدام، لأن الذين تخدمونهم يتحرقون شوقا إلى رؤية الدماء، ولا تنسوا أنكم تقتلون الحرية التي تتشدقون بها “وللتوضيح فشعار فرنسا منذ الثورة الفرنسية هو: الحرية، المساواة، الإخاء. فأين هم من شعاراتهم ؟
وفي 15يوليو1957صدر الحكم بالإعدام، وكانت جميلة أقوى من جلاديها ومن قضاتها، فاستنكرت شعوب العالم هذه الجريمة البشعة، غير أن هذا الإعدام لم يتحقق ، بعد أن اضطرت فرنسا إلى النزول عند رغبة الشعب
لقد بقيت (جميلة ) حية، وبعد ثلاث سنوات من السجن تم ترحيلها إلى فرنسا وبعد ذلك أطلق سراحها مع بقية المعتقلين لتحصل الجزائر على استقلالها في 5يوليو 1962