قصة مترجمة: العروسي ورحمانة
العروسي ورحمانة
ترجمة:الأستاذ الطائع الحداوي
هذه القصة مقتبسة من مصنف المغرب للكاتب الإيطالي إدموندو دي أمتشيس، من الصفحة 322 إلى الصفحة 328، نشر بمدينة ميلانو عام 1989،
: ويستهلها الكاتب بقوله
في صباح هذا اليوم، حكى لي سلام، بطريقته الخاصة، الحكاية الشهيرة لقاطع الطريق العروسي. حكاية من بين الحكايات التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد. تنتقل، شفهيا، من لسان إلى لسان، ومن شخص إلى شخص، من البحر إلى الصحراء. حكاية تقوم، مع ذلك، على واقعة حقيقية وحديثة لا يزال يعيشها الكثير من الشهود، وفي خاتمتها، يضيف
لا نعلم ما إذا كانت لا تزال على قيد الحياة.( يقصد رحمانة). ولكن، منذ عشرين سنة كانت موجودة. والسيد “نارسيسو كوتتي” الموظف بالقنصلية الفرنسية في طنجة قد شاهدها من مقر إقامته، وحكى قصتها
بعد الحرب مع فرنسا بقليل، أرسل السلطان مولاي عبد الرحمان جيشا لمعاقبة سكان الريف الذين كانوا قد أحرقوا سفينة فرنسية
توجه قائد الجيش إلى أحد شيوخ القبائل: الشيخ سيدي محمد عبد الجبار ليستقي منه أسماء المتهمين. كان شيخا طاعنا في السن، غيورا من شاب وسيم وشجاع اسمه العروسي. فما كان منه إلا أن أوعز إلى القائد بالقبض عليه، رغم براءته، وحمله إلى سجون فاس
سيق الشاب إلى فاس. ولكنه لم يقض في الحبس إلا عاما واحدا وأطلق سراحه. بعد خروجه من السجن، وحصوله على حريته، شد الرحال إلى طنجة، واختفى نهائيا عن الظهور
طال أمد الزمن، ولم يعلم أحد بأخباره. وعقب اختفائه، سرى الحديث بين الناس، وفي كل أرجاء منطقة الغرب، عن عصابة من اللصوص والقتلة وقطاع الطرق تحتل البادية بين الرباط والعرائش. شاع الحديث عن القوافل التي يقع الهجوم عليها، والتجار الذين يسلب ما بحوزتهم، والقواد الذين ينكل بهم، وعسكر السلطان الذين لا يسلمون من الطعن. لا أحد كان يجرؤ على عبور تلك المنطقة. فقلة من الأفراد الذين يسقطون بين أيدي القتلة ينجون بجلدهم سالمين، ويعودون إلى المدينة في حالة جنونية من الفزع
دامت الأمور على هذه الحال ردحا من الزمن. استعصى فيها على القوم وتعذر عليهم إماطة اللثام عن زعيم العصابة. وفي يوم من الأيام، جرى هجوم على تاجر ريفي في الليل. وعلى ضوء نور القمر، اهتدى التاجر إلى التعرف على الشاب العروسي من بين عناصر العصابة الذين عملوا على سلب أغراضه وتجريده. أسر الخبر إلى طنجة. وما لبث أن انتشر في كل أنحاء الغرب انتشار النار في الهشيم
لا شك في أن رئيس العصابة هو، فعلا، العروسي. كثير من الأشخاص الآخرين تعرفوا إليه وأكدوا رواية التاجر. كان العروسي يظهر في الدواوير، والقرى، في النهار والليل، في هيئة جندي، وقايد، ويهودي، ومسيحي، وامرأة، وعالم؛ يقتل، يسرق، يتستر؛ مطارد من جميع الجهات، لم يقدر أي شخص على الوصول إليه. يمثل دائما في أوقات غير متوقعة، وفي هيئة تنكرية جديدة؛ غريب الأطوار، شرس، لا يكل ولا يمل، ولا يكاد يبتعد كثيرا عن محيط قلعة المعمورة. تساءل الناس عن السبب في ذلك. والحقيقة، أن السبب الرئيسي يكمن في أن قايد قلعة المعمورة، في تلك الفترة، كان هو الشيخ المسن سيدي محمد عبد الجبار، الذي سبق له أن أشار إلى قائد جند السلطان باعتقال العروسي والإمساك به وإيداعه السجن بفاس
خلال تلك الحقبة من ولايته، أقدم سيدي محمد عبد الجبار، على تزويج إحدى بناته، الفائقة الجمال، المسماة رحمانة، بابن باشا سلا، المسمى سيدي علي
أقيم حفل الزواج في طقوس أبهة عظيمة. أثث حضوره شباب أغنياء المنطقة. حجوا إلى مكان العرس، في قلعة المعمورة، يمتطون صهوة الخيول، ويتقلدون أسلحتهم، ويرتدون ثيابهم الفاخرة. أي كل ما يملأ العين نخوة والصدر هيبة. وكان مطلوبا من سيدي علي أن يصحب زوجته إلى سلا، حيث يوجد منزل أبيه
انطلق الموكب من القلعة في الليل. لم تكن الطريق سالكة بما فيه الكفاية. إذ كان الموكب مجبرا على اجتياز ممر ضيق جدا. يتشكل من سلسلة من الربى المكسوة بالأشجار وسلاسل التلال
خرج موكب العروسة بصورة مرسومة: يسير، في المقدمة، حرس من ثلاثين فارس؛ وخلفهم، تتربع رحمانة على هودج بغلة، بين زوجها وأخيها؛ بعد رحمانة، يأتي أبوها القايد وثلة من الأقارب والأصدقاء
ولجوا الممر الضيق. سماء الليل صافية. الزوج يشبك بكلتا يديه زوجته. الشيخ القايد يمسد لحيته. كان الجميع في نشوة من الابتهاج وغمرة من الفرح لا مثيل لهما
فجأة، إذا بصوت غريب انهد له جدار صمت الليل، يصيح
!العروسي يسلم عليك، يا الشيخ سيدي محمد عبد الجبار –
وفي اللحظة نفسها والموضع نفسه، في أعلى ربوة، شوهدت شرارة ثلاثين بندقية تنبعث في أقصى السماء، وسمع دوي ثلاثين طلقة تفزع من به صمم. الخيول، والجنود، والأقارب، والأصدقاء هالهم الحدث وعظم عليهم. منهم من هوى ميتا، ومنهم من يتحرك مجروحا، ومنهم من تمكن من الهرب. في خضم هذا الهرج والمرج، بقي القايد وسيدي علي سالمين. وبينما هما يسترجعان أنفاسهما من هول الصدمة وذهول الدهشة، انبرى لهما، على حين غرة، رجل غضوب، شيطان حانق، باختصار، العروسي. سقط ، كالصخرة، من قمة التلة، وأمسك رحمانة. أنزلها من فوق السرج. أرخى رسن فرسه على غاربه، ولاذ بالفرار نحو مجاهل غابة المعمورة
القايد وسيدي علي، بوصفهما رجلين حازمين، بدل أن يغادرا المكان واليأس الخائب يستبد بهما، أقسما أمام الملأ أن لا يطأطئا الرأس ويستسلما للقدر المحتوم قبل أن يثأرا بكيفية مرعبة
قدما طلبا إلى السلطان وحصلا منه على ما يكفي من العتاد والجند. وعلى التو، شرعا في عملية البحث عن العروسي، الذي احتمى، مع عصابته، بغابة المعمورة الكبيرة
خاضا في هذه العملية حربا ضروسا بمعنى الكلمة. دامت عاما ونيف. استعملت فيها كل أنواع المواجهة والمقاومة في هذا النمط من المعارك: من الضربات باليد واللكمات، والكمائن، والهجمات الليلية والمباغتات، والخداع والدهاء والحيل، إلى القتال الشرس. وبفعل ذلك، حوصرت العصابة في مركز الغابة. شيئا فشيئا، وقع تطويق مجال تحركها من جميع النواحي، صارت الدائرة تضيق عليها وتتقلص. وكان من نتائج هذا الحصار الشديد، أن قضى مجموعة من عناصر العروسي جوعا، وعدد كبير منهم أطلق ساقه للريح هاربا، والعدد الآخر لقي حتفه في ساحة القتال
القايد وعلي، وهما على وشك تحقيق الهدف المنشود، تعززت قوتهما واشتد عودها.لا يرف لهما جفن في آناء الليل وأطراف النهار. لا يتنفسان هواء غير هواء الانتقام وأخذ الثأر. ومع ذلك، تنعدم الأنباء كليا عن العروسي ورحمانة
تضاربت الأقوال واختلفت الآراء في شأنهما. هناك من يقول إنهما ماتا من شدة التعب والعسر. وهناك من يجزم بأنهما هربا. ورواية أخرى يعتقد أصحابها بأن قاطع الطريق قد قتل الزوجة-الشابة وأمضى القتل على نفسه
بدأ الشك يكتنف الرجلين، القايد وسيدي علي، واليأس يتسرب إلى نفسيهما. فمع تقدمهما في عمق الغابة، تزداد الأشجار كثافة وانتشارا، والشجيرات تشابكا وعلوا. ويتضاعف تعقيد المسالك ووعورة الولوج مع رسوخ قوام الأشجار الباسقة، والعليق، والعرعر. وهو ما يحول دون شق منافذ الطريق أمام الخيول والكلاب
في يوم من الأيام، وهما ينصرفان إلى البحث في الغابة، وأمارات الإحباط والصمت بادية عليهما، لاح أحد الأعراب من بعيد ليخبرهما بأنه شاهد العروسي مختبئا في كومة من الأسل، على ضفة النهر، في الطرف الأقصى من الغابة
أجمع القايد، على وجه السرعة، فرسانه، قسمهم إلى فريقين: فريق على اليمين، وفريق على اليسار، قصد التوجه إلى النهر. بعد سباق شاق وطويل، كان القايد أول من لاحظ، على مدى مسافة نائية، وسط حشائش الأسل، انتصاب هامة شبح، في صورة رجل بقامة ضخمة وبمظهر رهيب: إنه العروسي
هب الجميع إلى المكان الذي يتوارى فيه اللص، وصلوا، داروا، فتشوا، لا أثر للعروسي، من المحتمل أن يكون على ضفة النهر
– أعبر النهر ! صاح القايد.
ألقوا بأنفسهم في النهر. بلغوا الضفة المقابلة ، توجد عليها بعض علامات الأثر. ساروا في نطاق إشارات هذه العلامات. ما هي إلا فترة وجيزة، حتى انعدمت كل إشارة تحيل إلى شيء ما. انطمس كل طلس وانمحى، رمى نفسه في النهر. نجح في الابتعاد أكثر. قال القايد بكل حسرة وارتياب
أخذ الفرسان على الفور، في الركض على طول الضفة. وفي الوقت ذاته، أثارت كلاب القايد الثلاثة انتباهه، حين توقفت وبدأت في الشم عند أجمة الأسل. جد في السير سيدي علي أولا، وعاين قرب الأجمة حفرة عريضة تحتوي، في عمقها، على فتحات صغيرة. لم يتردد طويلا. قفز في الحفرة. أدخل بندقيته في إحدى الفتحات. شعر بأنها تأبت عليه. أطلق النار. نادى على القايد. هرع إليه الجنود. أمعنوا النظر هنا وهناك. اكتشفوا فتحة صغيرة دائرية على مستوى سطح الماء في الأجمة المحفوفة بدقة متناهية. رابهم الأمر. قد يكون العروسي اتخذ تلك الفتحة مدخلا للنزول إلى تحت الأرض
هيا .. للحفر. صرخ القايد –
هرول الجنود إلى الدواوير المجاورة لجلب الجرافات والفؤوس. عادوا. بدؤوا في الحفر. عملوا على قلب تربة الأرض قلبا، اكتشفوا جحرا في غور الكهف يتموضع العروسي شاخصا، جامدا، ثابتا، شاحبا مثل جثة ميت، بذراعين متدليين
أحكموا قبضتهم عليه. لم تصدر منه أي حركة مقاومة. أخرجوه من جحر الكهف، وعلى عينه اليسرى ثلمة. أوثقوا رباطه. سحبوه إلى خيمة. طرحوه أرضا. وفي أول ثأر، قرر سيدي علي بتر كل أصابع رجليه بسكين، و رميها أصبعا أصبعا على وجهه. ثم، أمر ستة جنود بحراسته، وانصرف إلى خيمة أخرى رفقة القايد، بغية التداول في نوع العقوبة التي يجب إنزالها عليه قبل قطع رأسه. استغرقت المداولة مدة طويلة. هناك من اقترح عقابا أشد ألما وقسوة. استمرت المناقشة والمشاورة. لم يتبين في الأفق صنف العذاب الفظيع الذي ينبغي أن يسوم الجاني ويطبق عليه. حل المساء، لم يستقروا على رأي حاسم في المسألة. انفض الجمع. اتفقوا على تأجيل البت في القرار إلى صباح الغد
بعد انقضاء برهة من الزمن، غادر القايد وعلي الموضع، كل واحد منهما إلى خيمته. كان الليل حالكا شديد السواد. سكنت الريح وانقطع هبوبها. خف حفيف أوراق الشجر ولان. لم يعد يسمع إلا صوت انسياب خرير النهر وأنفاس النوم
بغتة، دوى صوت عظيم، في سكون الليل البهيم
!العروسي يسلم عليك، أيها الشيخ سيدي محمد عبد الجبار –
نهض الشيخ القايد على رجليه مذعورا. سمع حوافر فرس يعدو، كالسهم، في الطريق. نادى على الجند. جاءوا إليه مسرعين في حالة غضب. صاح في وجوههم
! فرسي ! فرسي-
بحثوا عن فرسه. أعظم فرس في الغرب. لم يتمكنوا من الاهتداء إليه. اختفى. حثوا الخطو إلى خيمة سيدي علي، عثروا عليه ملقى على الأرض من دون روح، والسكين مغروزة في عينه اليسرى. انفجر القايد باكيا. اندفع الجند دفعة واحدة للبحث عن الشرير الهارب وتعقب مساره. أبصروه. كان يتراءى لهم، في بعض اللحظات، كالظل. توارى عن أنظارهم. شاهدوه مرة أخرى. ولما كان سيره دهسا وشبيها بالصاعقة والبرق، فالعين لم تعد ترمق كل شبح. ومع ذلك، أمضوا الليل كله، في مطاردته أملا في إدراك ملاحقته. بقوا على تلك الحال، إلى أن اعترضت سبيلهم غابة كثيفة، فتوقفوا عن المسير في انتظار بزوغ شمس النهار
مع انبثاق الأشعة الأولى لشروق الشمس، وضح لهم، من مسافة نائية، حصان القايد مقبلا عليهم، يركض ركضا، منهكا وداميا، يملأ الرحب بصهيل حزين. ولما ذهب بهم الظن بأن العروسي قد يكون متواريا في الغابة الكثيفة، سرحوا الكلاب ومشوا خطوات إلى الأمام شاكين السلاح وأيديهم على الزناد. بعد لحظة وجيزة، اكتشفوا كوخا آيلا للسقوط يكاد لا يرى بين الأشجار. استهرعت الكلاب ناحية المكان. توقفت. أعقبها الجنود خببا على أصابع أرجلهم. وصلوا إلى الباب. أعدوا البنادق لإطلاق النار. تركوها تسقط على الأرض وهم يصرخون من فرط الدهشة. بين تلك الأسوار الأربعة المهترئة، يتمدد العروسي جثة هامدة على التراب؛ وبجواره، امرأة ذات جمال أخاذ، بثياب فاتنة، وشعر مسدل، ورجلين ملطختين بالدماء، باكية إلى حد الانتحاب، مبتسمة، تتمتم بصوت طفولي كلمات اليأس والحب. إنها رحمانة. لم تنل من قلوبهم الريبة في رفقتها إلى بيت أبيها. ظلت هناك ما يدنو من ثلاثة أيام من غير أن تنبس بكلمة واحدة، بعد ذلك، اختفت وغابت. حدث لا يدانى. مضى زمن على زمن، فإذا هي ملمومة بين أنقاض الكوخ المهجور في الغابة تحت التراب بأظافرها حتا، منادية على العروسي. عز عليها مغادرة المكان. لعل الله أعاد إليها روحها، فبقيت سليمة
Edmondo De Amicis : Marocco , Messaggerie Pontremolesi,1989, Milano. P : 322-328