خلجات فاس بلسان غيور
فاس: العاصمة العلمية في حنين للماضي المشرق
موجودة أنا مذ كنت أرضا في ملكية بني خير، استبشر بهم المولى إدريس الثاني فاشترى منهم موقعي ليقيم عليه بنائي وجعلني أول مدينة، أول عمران منظم في أول دولة منظمة بالمغرب فكانت الدولة الإدريسية سنة 192 هجرية. ومن حينها، وإلى الآن، عبر هذا التاريخ الطويل، كان لي عطاء زاخر ومتنوع، من تجريد البلاد من تأثير العصبيات والطابع الفوضوي، إلى تنظيم الدولة بالوزارة والكتابة والقضاء والإمامة، إلى البناء والتشييد، ومع تغير السلالات والدول التي تعاقبت على الحكم عرفت تطورا وحضارات تجانست وتفاعلت لأكون كما عرفتموني مهدا للعلم والعلماء، ومشتلا لتكوين الخبراء والكفاءات من معلمين وفنانين ومهرة، ومركزا صناعيا وتجاريا، فبلغ إشعاعي كل الآفاق والأمصار، واشتهرت بأوصاف تتداول إلى الآن، منها أنني عبق التاريخ، أنني مدينة العلم والعلماء، أنني ملتقى ومهد الحضارات، أنني أول عاصمة روحية علمية ثقافية، وهناك من يسميني ذاكرة ثانية للأندلس. ولكن، وإن كنت معتزة بهذا الاعتراف كتاريخ وإرث حضاري ونضال وطني وتراث إنساني، فإني أشعر معه بغصة من أبناء وطني، اليوم، الذين ينسون، أو يتناسون من أنا، وما موقعي في التاريخ والجغرافية، وتبقى الغصة الأكثر وقعا على نفسي أن أبنائي – الذين أضافوا لأوصافي بأنني عشقهم القديم، انهوا علاقتهم بي مكتفين، فقط، بهذا الاعتراف / الوصف، بل إن بعض قاطني منهم، لا يعرف عني سوى أني آويهم ولهم بين ظهراني مسكن ومكان عمل وعش إقامة، وكأن ذاكرتهم تتلاشى وسط زحمة العمران وسيرورة الحياة أو تتأثر ببعض المنشورات التي حاولت وما فتئت تحاول خدش تاريخي وكبريائي
أنا فاس،لا أريد أن أفرض نفسي على أحد، ولكن لا أستطيع أن أخفي أنهم بهذا التغاضي، اعتبروا أن دوري التاريخي قد انتهى . وهذا ما يعذبني في كبرياء، راضخة للأمر الواقع أحيانا، ولكني رافضة لهذا الجحود على الدوام، فأنا لم أكن يوما أنانية، بل كنت أنقل وأتقاسم إشعاعي مع كل مدن وطني المغرب وكل سكان المغرب، بل وفتحت صدري حتى لغير المغاربة، ولكم أن تسألوا التاريخ عن أعداد من نالوا من رحيقي في مختلف المجالات، أو اسألوا جامعاتي وجوامعي ومدارسي ومعاهدي وزواياي ودروبي وأزقتي وشوارعي ومتاجري ومصانعي وكل مرافقي التي كانت حيوية إلى حين. فهل جزاء مدينة تعتبرون حمولتها تاريخية وأصيلة وفاضلة بشهادة العالم، أني أعاقب بالإهمال واللامبالاة. لا، وبل أن ذاكرتي سجلت مرارا أني عيرت وعوقبت في مشاريع سحبت من بساطي بعد أن اختارها الشعب وأقرتها الدولة في عصرها وزمانها القريب، ويرفضها وزير قائلا ” حتى يجي وزير فاسي ديالهم ويبني لهم “
أتساءل أحيانا، أي ذنب جنيت يصبح جزاؤه هذا الجحود والإهمال؟ قد يقول قائل: إن ما أعانيه هو نتيجة لسلوك بعض أبنائي. وهذا قد يكون صحيحا، ولكنه وهو غريب ودخيل على حضارتي وتاريخي ما كان له ليصدر حتى لو كان رد فعل على الإساءة، لا، بل على الإساءات المتلاحقة والمتكررة من الأغيار الذين يكيدون لي بكيدهم لأبنائي وسلالاتي ولسمعتي وتاريخي، ولكن ما يهدئ من روعي فأعود للهدوء والاطمئنان أنني موجودة، وفي ظل ملكية شريفة شامخة تحميني من أن أصبح في غربتي وحدي، وتقويني لأطلب بجرأة، أن يكون وجودي حياة وحيوية ونهوضا وارتقاء وتطورا حتي لا يغطيني الظلام وحتى تنقشع الغيوم عن سمائي، وحتى يعلم الكائد – حيا أو ميتا – أني متى كنت مشعة، تعم أنواري على كل الجهات وكل الأصقاع لأني وهبت وأهب ذاتي لكل وطني، ولا أطلب جزاء ولا استجداء، وإنما الإنصاف. فأنا لا أجحد وما كنت جاحدة لكل الالتفاتات التي أعطتني القدرة على الحياة ورفعت من مستوى رغباتي، ليس بغرض التميز عن شقيقاتي، ولكن بالمساواة على الأقل وفق ما أنا مؤهلة له وما يتيح تأهيلي ليستمر إشعاعي. سقف طموحاتي لا يسجل أي حسد لشقيقاتي التي انطلقت نحو آفاق واعدة من التطور والرقي لدرجة أن كثيرا من أبنائي تراودهم فكرة الدعوة إلى إبرام اتفاقية توأمه معها، لعلني أنال نصيبا مما نالته، وهذا، لعمري، خاطر غريب تجيش به خلجات أبنائي، ويعتبرونه – إن حدث وقعه – مندرجا في إطار التكامل والانسجام والتلاقح، لأن سقف طموحاتي يمتد لإعادة الحياة لمحافلي الثقافية والاجتماعية والرياضية ولأسواقي التجارية وفضاءاتي الاقتصادية ومعاملي الصناعية ومؤسساتي السياحية ومياهي الجارية، فتعود لها أنشطتها ،وليخرج كل المثقفين عن صمتهم وكل المبدعين عن إحجامهم، وتعود كل طيوري المهاجرة إلى أعشاشها، أو تساهم من مواقعها الحالية بما يجسد أني في فكرهم وإبداعاتهم وأن تكون لي فضاءات تغري باستقطابهم ومساهماتهم من جديد للعطاء في الثقافة والأنشطة الاجتماعية والرواج التجاري والإشعاع السياسي وحماية البيئة والتنشيط السياحي، وهي الفضاءات التي تعاني كمن الركود بقصد، أو بدون قصد- منذ زمن ليس بالقليل- فحتى أكون كما عهدتموني، موضوعية في تمديد سقف طموحاتها، فأنا لا أحمل المسؤولية للفاعلين المفترضين فقط، بل المسؤولية متقاسمة بينهم وبين غياب الفضاءات وتقصير في البنيات التحتية، مع أن كلا منهما يكمل الآخر ويحفزه وكلاهما يسعى لتوفير بيئة متطورة ورقمية صديقة للبيئة، ومحفزة على التعلم والإبداع، ومستدامة تعزز الشعور بالسعادة ولذة البحث عن حلول وسياسات مشتركة للحفاظ على تاريخي أنا فاس ، وإحياء تراثي وتناغمه مع ما يستوجب من تطور ورقي، فأنا فاس أقول: كفى، لم أعد أحتمل سحب المبادرة عن أبنائي وإرغامهم على التقصير في حقي، وحرماني من الورشات، والمشاريع والإنجازات، ومن التظاهرات الفكرية والفنية والعلمية ومن المهرجانات
فهذا الحرمان يذكرني، آسفة، بما فعله الاستعمار بي، حين فكر ألا أظل مركزا للإشعاع الشرعي والفكري والثقافي والفني والحضاري. لم أعد أحتمل ما يحسسني كأني عقيم لم تنجب نجباء ولا قدرات، مع أني، ودون تمنن أو تبجح، أراهم يديرون ويسيرون ويدبرون ويبادرون في جهات ومحافل أخرى بعيدا عن ترابي وهذا يفرحني لأني لست أنانية ومؤمنة أن خير الغمامة أينما جادت قطراتها فهو خير للبلاد كلها، ولا سيما في زمن الجفاف والقحط -عافاني وعافاكم الله من شروره وتبعاته – أنا فاس ، أطمح وأرغب أن يكون لي نصيب من التحديات الكبرى للتنمية المستدامة، لأكون مدينة مستقبلية تزاوج بين أني مدينة أصيلة وفاضلة وبين أن أكون مدينة معاصرة ذكية، ولا تقف طموحاتي عند أني صاحبة أول قانون في مجال التعمير وصاحبة أول جامعة علمية، وغير ذلك كثير ومعروف، مما أهلني لتصنيفي ضمن التراث الإنساني العالمي وتصنيفي مؤخرا رابع وجهة مفضلة للسياحة الثقافية . ولكن أن تتعزز لدي رفاهية سكاني وحماية بيئتي ومحاربة الفقر في أرجائي وإتاحة الفرصة ليبقى أبنائي منخرطين في مبادرات المواطن المبتكر حتى يظل سكاني عبر التاريخ من أصحاب المبادرات الواعدة ولا يتحولون إلى استهلاكيين سلبين محليا، أو مبادرين منتجين مبتكرين في محافل أخرى دولية ووطنية، لا تعود علي إلا بالفتات أو لا تجود بشيء. فهذا مما يضير بي كمكان مؤسس وبناء لعلاقات مجتمع يتفاعل فيه سكاني مع محيطهم كما يتفاعلون خارجه، فيكون لهم دور في بلورة القيم الخاصة بي وبوطني ومؤهلاتي لتسخير معطياتي المكنوزة وتحقيق متطلبات العيش باستخدام الإمكانيات العقلية والمادية. وفي الأخير. اسمحوا لي جرأتي وهي موضوعية، أنطقها إحساسي بأن هناك من يراني اليوم على دنياي سرابا وأنا لست كذلك ولن أكونه