الذاكرة وتأثير الطبيعة والزمن، ومقولة بول ريكور

الذاكرة وتأثير الطبيعة والزمن، ومقولة بول ريكور

..الكتابة عن الحياة تاريخ آخر لم يكتمل

       ذ. محمد الحراق
لا يمكن تصور أن يعيش الإنسان بلا ذاكرة، بلا مخزون تاريخي ومرجعية فكرية أسسها وسجلها في ذاكرته عبر سنوات من الدراسة، والقراءة، والخبرات، والمشاهدات. هذه الإشكالية حيرت المفكرين والفلاسفة منذ القدم، فطرحوا أسئلة جوهرية حول مفهوم الزمن بحد ذاته ومدى تأثيره على الذاكرة
يعدّ أرسطو أنّ الزّمن هو على الحقيقة خيالي لأنه يكون إمّا ماضياً أو مستقبلاً، وكلاهما غير موجود فعلياً؛ بينما الحاضر ليس زمناً، بل هو حدّ في الزّمن، كالنقطة في الخط ليست هي الخط بينما اعتبر أفلاطون أن الزّمن مخلوقٌ مع العالَم وليس أبديا ً، لكن أرسطو رفض ذلك لأنه لا يستطيعُ أن يتخيّل نقطة بداية للعالم أو للزّمن
أما الفيلسوف ابن سينا فقد كرّس له الفصول الطويلة في عدّة أعمال من كتبه الشهيرة كالنجاة والتنبيهات وغيرها . لكنه كان يشكّ في وجود الزّمن الطبيعي، فهو يعدّ الزّمن يوجد في العقل فقط بسبب الذاكرة والتوقّع، إلا أن له وجود حقيقي، ولكن غير مادي، أي ليس له جوهر مستقل، ولكنّه يوجد من خلال الحركة
وكذلك تبنّى الكندي، وهو عالِم رياضيات وفيلسوف، فكرة أرسطو أن الزّمن هو عدد الحركة بالإضافة إلى مبادئه الفلسفية الأخرى بعد تقويمها على أساس المبدأ الإسلامي أنّ الله الواحد هو الذي خلق العالم؛ فصرّح الكندي أنّ العالَم المادّي لا يمكن أن يبقى إلى الأبد بسبب استحالة وجود أبدٍ فعلي، وكذلك لا بدّ من وجود لحظة للعالَم وبالتالي لا بدّ من خالقٍ لهذا العالَم وهو الذي أوجده عن عدم
أما الطبيب والفيلسوف الرّازي فيبدو أنّه قد تبنّى فكرة أفلاطون أن الزّمن هو الشكل الظاهر للوجود الأبدي، بالإضافة إلى فكرة أفلوطين أنّ الزّمن أبدي؛ وبذلك رفض وجهة نظر أرسطو أنّ الزّمن لا يوجد إلا في الخيال
ومن جهة أخرى فقد ركّز الفيلسوف الفارابي على الخواص الغيبية للزمن حيث تبنّى وجهة نظر أرسطو أيضا عندما قال إنّ الحركة الدائرية هي الحركة الوحيدة المستمرة وإنّ الزّمن يقاس بهذه الحركة، لكنّه، وبشكل مشابهٍ لابن سينا، قسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام فيما يخص الوجود؛ أمّا العالَم فقد كان ممكن الوجود قبل وجوده الفعلي ثم ينقله الله تعالى بشكل مستمرٍّ من العدم النسبي إلى الوجود النسبي؛ فالعالَم بشكل دائم في حركة وانتقال بين التكوين والفساد، وأجزاء العالَم تتشكل وتتحلل مع مرور الزّمن وبشكل سريع لا ندركه، رغم أن العالَم ككلّ يبدو مستقرّاً في الوجود. وحسبَ هذه الرؤية فإنّنا نرى العالَم في حركة مستمرة في الزّمان والمكان ، وهو على الحقيقة في حركات، في حين أننا لو نظرنا إلى العالَم ككل فإننا  نرى له وجوداً مستمراً لا يتعلق بالزّمان ولا بالمكان
رفض نيوتن ربط أرسطو بين الزّمن والحركة وقال بأنّ الزّمن موجود بشكل مستقل عن الحركة ، وكذلك موجود حتى قبل خلق الله للعالم؛ فالزّمان والمكان يحويان العالم بما فيه من أحداث وأجسام. بعد ذلك أصبحت هذه النظريّة تُعرف باسم النظريّة المطلقة للزمن، في حين تبنّى لايبنتز كما قلنا نظرية الترابط بين العالم والزّمن وقال إنّ الزّمن لا يوجد بشكل مستقل عن الأحداث أبداً
في القرن الثامن عشر، قال الفيلسوف كانْت إنّ تفكيرنا وعقلنا يعطي للزمن البنية الخطية الخاضعة للهندسة الإ قليدية، ولكن هذا الرأي تغيّر مع ظهور الهندسة اللاإقليدية حيث يمكن تخيل الزّمان والمكان بشكل غير خطي ويوضح كانْت في نقده للعقل والمنطق أن رؤيتنا الحالية للزمن تؤدي إلى تناقض منطقي سواء فيما إذا فرضنا أن العالَم له بداية في الزّمن أو ليس له بداية في الزّمن؛ فلو فرضنا أنه ليس للعالم بداية في الزّمن فهذا يعني أنه في أيّ لحظة هناك عدد لا نهائي من الأحداث سبقت هذه اللحظة، وهذا لا يجوز! أما إذا فرضنا أن هناك بداية في الزّمن، فهذا يعني أن هناك أوقات فارغة لم يكن فيها الكون موجوداً، وهذا أيضا لا يجوز  ونشير هنا إلى أنّ لايبنتز كذلك استخدم نفس هذه الحجّة لإثبات ارتباط العالم الزّمن. وفي الحقيقة فإن هذه الحجة قديمة استخدمها أيضاً الفيلسوف المسلم الكندي كما رأينا أعلاه
جاك دريدا في كتابه «الأرشيف» أنّ الأرشيف ليس شيئًا مترابطًا وثابتًا. المحفوظات والذاكرة والتاريخ هي أمور متشابكة؛ حتّى إذا بقيت محتويات الأرشيف على حالها، فسينظر إليه في ضوء جديد ومتغيّر باستمرار مع مرور الوقت وتتطوّر الذكريات والتراكم التاريخيّ. يرى ميشال فوكو في أركيولوجيا المعرفة (1969) أنّ المعرفة – بوصفها قوانين المعتقدات الموروثة – سائلةٌ تمامًا؛ إذ إنّ المفاهيم الّتي تكوّنها تتغيّر باستمرار مع مرور الوقت. ما يُعدّ أمرًا مفروغًا منه اليوم هو، على الأرجح، ليس الطريقة الّتي نظر فيها الإنسان إلى الموضوعات بكونها صحيحةً قبل مئة عام. وبالمثل، نرى مارتن هايدجر في كتابه «الكينونة والزمان» (1927) يولي اهتمامه -جزئيًّا- بفكرة أنّ الكينونة هي الزمان، وأن الكينونة نفسها (ويعادل هايدغر -إلى حد بعيد- الكينونة بالوعي) هي دائمًا في حالة ديناميّة. فهي ليست مادّةً ثابتةً
لكن هناك من يرى أن النسيان هو سبب السعادة، مما يطرح عدة أسئلة فلسفية وسجالات فكرية لا زالت تلقي بظلالها حتى الآن بين كبار الفلاسفة. ولعل أشهر فيلسوف أحدث ضجة كبرى في مقاربة هذا الموضوع هو فريديريك نيتشة الذي يعتقد أن الحيوانات تعيش سعيدة أكثر من الإنسان، لأنها تحيا بشكل “لا تاريخي”. فهي تعيش الحاضر كما هو ولا تخفي شيئا، فهذه الكائنات لا يمكن أن تكون إلاّ صادقة، لأنها الأكثر قدرة على النسيان. الحيوانات تعيش سعيدة أكثر من الإنسان لأنها تحيا بشكل “لا تاريخي” أي تعيش الحاضر كما هو. أما الكائن البشري فيمكنه أن يتجاوز بعضا من ذكرياته من أجل سعادته، لكنه غير قادر على نسيان كل ماضيه
“لكن نيتشه كان مبالغا شيئا ما، لأن حتى للحيوانات لها ذاكرة، تتراوح بين الطول والقصر، ربما أصغرها وأقلها ما نضرب به المثل “ذاكرة السمكة
تحت التاريخ توجد الذاكرة والنسيان. وتحت الذاكرة والنسيان توجد الحياة. لكن الكتابة عن الحياة تاريخ آخر لم يكتمل
هذه السطور، الموضوعة في ختام كتابه العظيم الأخير يعبر أعمال بول ريكور بوضوح عن البحث عن الأساسي الذي لا ينتهي أبدًا في القول بأن “الحياة”، على سبيل المثال، هي مصدر كل الأفكار والأفعال، فذلك فقط بقدر ما يتم التعبير عنها بالفعل في لغة (“قصة”) والتي بدورها تتطلب تفسيرًا بين الأشياء وما نقوله عنها، هناك فجوة تتناقض مع الإغراء المثالي، لكن هذه الفجوة لا يمكن قياسها مباشرة من الأشياء نفسها. بعد أن تخلى منذ بداية رحلته الفكرية عن كل أمل في الحدس الذاتي، ضاعف ريكور المنعطفات، واختبر الأساليب، واكتشف مفارقات جديدة. وكأن “عدم الاكتمال” هو الأفق الذي لا يمكن تجاوزه لفكر يرفض أن يضع نفسه تحت اعتباطية مبدأ واحد
من خلال المواجهة مع شخصيات معاصرة من “خارج” الفلسفة، يبني ريكور قضاياه، بحيث يمكن قراءة كل كتاب من كتبه باعتباره عرضًا صبورًا للتناقض ومحاولة التغلب عليه
غالبًا ما كان فن المواجهة والحوار الخيالي هذا يعرض الفكر الريكوري لانتقادات الانتقائية. وصحيح أن ريكور لم يستسلم أبدًا لسهولة اختيار خصمه بحيث تظهر نقاط ضعفه كنقاط قوة في الموقف الذي يدافع عنه. في جميع الأعمال والمشاكل، يتم التعامل مع التحليل النفسي والأنثروبولوجيا البنيوية أو الفلسفة التحليلية (ولكن أيضًا الأسطورة أو النص الكتابي) بطريقة أخرى غير طريقة تمجيد: كتحديات يجب مواجهتها من أجل التفكير بشكل مختلف. إن الصراع المطروح في كل مرة لا يتعارض أبدًا مع الأطروحات فحسب، بل يتم استيعابه في فعل الفهم الذي يشكل، أكثر من نقطة البداية المحتملة، الشرط نفسه. إذا كانت التأويلية تصبح ضرورية فقط في حالة سوء الفهم، فيمكننا القول أن اهتمام ريكور بالفهم يجد مصدره في الإشكاليات التي تقلق المعنى. في البداية، يتم إعادة صياغة هذه الالتباسات وإثرائها وإزاحتها تدريجيًا كما هو الحال على نحو مثالي فيما يتعلق بالبديل الظاهر بين «زمن الروح» (أوغسطينوس) و«زمن العالم» (أرسطو
انظر الزمن والقصة (ثلاث مجلدات)، باريس، سيويل، 1985. بدلاً من التسوية، يبحث ريكور عن موقف ثالث (في هذه الحالة، “الزمن المروي”) الذي تدفعه صياغته أكثر عند النظر في مشكلة جديدة. . وفي ظل مظهر اللايرنيكية، فإن الاهتمام بأفضل حجة يشارك بالتالي في اهتمام يمكن، بسبب إنشائه، أن يرتقي إلى مرتبة المنهج
ممارسة النسيان
ونحن لا نرى في ممارسة النسيان، بل في واجب التذكر شرطًا للمغفرة. وإذا كان من الممكن استحضار شكل من أشكال النسيان بشكل مشروع، فلن يكون من واجب إسكات الشر، بل أن نقوله بطريقة هادئة، دون غضب
واجب الذاكرة
ولا شك أننا على حق في استحضاره ضد إغراء نسيان الفترات المشينة من التاريخ الفردي أو الجماعي. لكن من الخطأ أن نتركها تتجمد في صيغة أو شعار. ويساعدنا الفيلسوف بول ريكور في تفسير هذه الوصية، لإعادة اكتشاف معناها وأهميتها وقضاياها. تحليلاته للذاكرة تبدأ من جذورها: ما هي الذاكرة؟ ماذا يعني أن نكتب التاريخ؟ فكيف يمكن وضع النسيان في الحالة التاريخية للإنسان؟ يجد العمل أفقه في الفحص النهائي لمسألة المغفرة. التزاماتنا تجاه الماضي ليست كلها من الذاكرة. ألا يجب أن نعرف أيضاً كيف ننسى؟ أليس النسيان مشروعا عندما يساعدنا على النجاة من الخطأ الذي ارتكبناه؟ واجب النسيان؟ ولكن ما هو هذا الإشراف إذن؟ ليس الرضا الذي يستسلم لضجر الزمن، ولا العفو الذي يؤدي إلى فقدان الذاكرة. وحده ما يقدمه المغفرة يمكن أن يؤدي إلى التغلب على عمل الحداد وإعادة اكتشاف نوع من الطمأنينة في غياب البراءة. تطورات فلسفية غنية جدًا حول الأسئلة الأساسية. ولكنه أيضًا عمل حميم، حول إمكانية وجود “ذاكرة سعيدة

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com