(الجزء الثاني) السفر بين حد الحضور وحد الغياب

(الجزء الثاني) السفر بين حد الحضور وحد الغياب
(FREEP!K) صورة مأخوذة عن موقع
الدكتور عبد الكريم برشيد
الدكتور عبد المجيد فنيش

:فاتحة الكلام

عبد المجيد فنيش: فنان حر متحرر، سيد نفسه، وسيد اختياراته

      

لقد اختار عبد المجيد فنيش مسرحه الخاص، والذي هو مسرح غير متقولب في قوالب جامدة، وغير متخندق في خنادق إيديولوجية محنطة، ولقد اختار لغة هذا المسرح، واختار أبجدية هذا المسرح، واختار قضاياه الفكرية الحية، واختار جمهوره الحقيقي أيضا، والذي هو كل الناس، وليس مجرد فئة أو مجرد طبقة أو مجرد شريحة حزبية أو مجرد قبيلة دون غيرها

وعبد المجيد فنيش، وقبل أن يكون فنانا ملتزما فكريا وفنيا، فهو أساسا حياة وحيوية، وهو طاقة خلاقة، وهو إرادة حرة، وهو قوة ناعمة، وهو جرأة في الحق، وهو شغب جمالي جميل، وهو حضور إنساني بهي، حضور يغيب فيه الغياب، وهو أيضا شبكة علاقات إنسانية واجتماعية جميلة ونبيلة، وهو الشاب الذي لا يشيب ولا يشيخ، لأن طاقته الفكرية والوجدانية والإبداعية هي طاقة متجددة على الدوام، فهو الرجل الذي يحمل بداخله طفولة صادقة وشفافة متمددة ومتجددة في الأمكنة والأزمنة، وهو طفولة صادقة وشفافة، مجددة ومتجددة ومتمددة ومتعددة إلى ما لانهاية، وهو الفنان العاقل الذي يحمل عقل وفكر ورزانة الرجل الحكيم، ولكنه ـ في داخله ـ يظل طفلا يكتشف الأشياء، ويكتشف الناس ويكتشف الحياة، ويعيش شغبه الفكري والإبداعي الجميل على المسرح، وعلى مسرح الحياة، قبل ان يعيشها ويحياها على خشبات المسرح المسرحي

وعبد المجيد فنيش هو الفنان المثقف، الشاهد على عصره، وهل يمكن لأية شهادة نقدية، محدودة اللغة، ومحدودة المعجم ومحدودة الرؤية، أن تفيه حقه، وأن تحيط علما وفهما بحياته وبحياة مسرحه وبحياة عوالمه واكوانه الظاهرة والخفية؟

جوابا على هذا التساؤل أقول لا أظن، لأن الشهادة، على هذا الفنان، في حقيقتها، هي شهادة على العصر بالضرورة، وهي شهادة على تاريخ المسرح أيضا، والذي هو أحد رواده وفرسانه، وهو أحد الفاعلين الأساسيين فيه، وبهذا يكون من الضروري أن أتساءل

ــ أي تعريف يليق بفنان ومفكر بقيمة وبقامة عبد المجيد فنيش وبمسيرته ومساره؟

فهو الفنان المبدع والممتع والمقنع، وهو الشاعر والحكيم والصانع والحكواتي والمؤرخ والعراف الذي ترجم الحياة في تدفقها وفي حيويتها وفي وضوحها وغموضها، وفي زئبقيتها ومكرها إلى إبداع مسرحي حي، وهو عراف برتبة إعلامي، وهو إعلامي برتبة مؤرخ، ولقد أرخ للحياة المغربية والعربية والكونية، ولقد تحدث عن الحالات قبل الوقائع، وسجل الانفعالات قبل الأحداث، ولقد أنطق الصامت، وحرك الساكن، وأضحك العبوس، وكان ساخرا في عالم ساخر، وكان شاعرا في عالم ضيع شعريته، وكان حالما في دنيا تفتقد اليوم إلى الأحلام الجميلة والنبيلة

هو فنان متعدد الرؤية، وهو مبدع متنوع اللغات التعبيرية، وهو مجدد في الشعر والمسرح وفي الحياة، وهو إنسان متجدد بتجدد الأيام والليالي وبتجدد الشهور والأعوام، وهذا ما يفسر أن تكون مسيرته المسرحية تقارب نصف قرن، وأن يظل دائما في طليعة هذا المسرح، وفي مقدمته، وأن يظل ممسكا على جمر هذا المسرح، ولن أعدكم، بأنني سأقدم في هذه الكتايدبى – الشهادة معلومات جديدة غير مسبوقة وغير معروفة، لأن حياة هذا الفنان المبدع كانت دائما ـ وسوف تبقى ـ مفتوحة من كل الجهات، وأمام كل العيون المبصرة، وليس في هذه الحياة الصادقة والشفافة جانب غامض أو خفي أو ملتبس أو مهرب، لأن مسرح هذا المسرحي هو مسرح احتفالي مفتوح، هو مسرح بلا كواليس، وبلا جدران، حقيقية أو وهمية، وبلا ستارات تخفي ما خلفاها، وفي هذا المسرح لا وجود لشخص الملقن، ولقد دخل هذا المسرحي عالم المسرح، ليس من أجل أن يخفي الحقائق، ولكن من أجل أن يكشف عنها، ولقد آمن دائما أن دوره الحقيقي هو ان يملأ الفراغ الذي على الخشبة، وأن يكون ذلك بالفعل الذي له معنى، وبالحوار الذي له معنى، وبالغناء الذي يقول شيئا، والذي يعبر عن حالة من الحالات، وبهذا فهو في هذا المسرح الاحتفالي يشرك الناس في البحث عن المعنى، وهو يقتسم معهم متعة المسرح وبهجة المسرح ورسالة المسرح وحالات المسرح، ومسرحه قد كان دائما ـ وسوف يبقى، مسرحا مفتوحا من كل الجهات، ومفتوحا على كل الناس وعلى كل القضايا، وهو لا يخفي الأسرار الممنوعة والمقموعة، ولكنه يكشفها ويفضحها، والمسرح لديه كتابة حيوية في فراغ الخشبة، هو كتابة بالأجساد المتحركة والناطقة والمعبرة، والأساس في الفعل المسرحي أنه فعل يبدأ برفع الستار، ويبدأ بتسليط الإضاءة على الجوانب المظلمة في المسرح وفي المجتمع، والمختبئة في نفوس وأرواح وعقول الناس، إن هذا المسرح هو أساسا فن وفقه البوح، وهو فن التلاقي، وفن الحوار، ومن طبيعة هذا المحاور الذي يسكن جسد عبد المجيد فنيش، أنه لا يكلم الناس فقط، ولكنه يستمع إلى كلامهم أيضا، وينصت إلى نبض نفوسهم وأرواحهم، وهو في إبداعه يظهر الجوانب القصية والخفية، ويستحضر الأجساد الغائبة، يظهر هذا في مسرحيات ظاهرها تراثي تاريخي، ولكن جوهرها واقعي حداثي وحقيقي، وقدر هذا المسرحي الاستثنائي، أنه آمن بأن المسرح هو الدنيا، وهو الحياة، وهو التاريخ، وهو الحلم،وهو الحلم، وهو الحكمة، وهو السحر الحلال، وهو الظاهر والخفي في حياة الناس اليومية، وهذا المسرح هو الشعر أيضا، وهو الفكر، وهو الفن، وهو العلم، وهو الصناعات المتضامنة والمتحدة، أي صناعة الإنسان الجديد والمجدد، عقلا ونفسا ووجدانا وذوقا وأخلاقا قبل كل شيء، وبهذا، فقبل أن يكون هذا المسرح أجسادا تتحرك على الخشبة، فهو أساسا أرواح حية خفية، أرواح يخاطب بعضها البعض، بلغة فردوسية أعلى وأسمى وأرقى وأصدق من اللغة اللفظية اليومية، والتي قد تخلو من جماليات الشعر

في هذا العالم السحري والعجائبي، تمارس السلطة المسرحية فعلها، ويتم استحضار الماضي، ويتم تقريب البعيد، ويتم تحريك الساكن، ويتم إعادة الموتى إلى الحياة، ويتم التحكم في عجلة الزمن، ويتم اختزال المسافات في مكان واحد يسمى هنا، ويتم استحضار كل الأزمان في زمن واحد هو هذه اللحظة العيدية الحية الآن هنا، وفي كلمة واحدة، فإن المسرح هو الحضور، وعبد المجيد فنيش قد كان حاضرا دائما، ومعه حضرت شخصياته، وحضرت ظلال الواقع وحضرت أجوِاِؤه الواقعية والتراثية والتاريخية أيضا، وفي هذا الزمكان السحري يتم التلاقي الاحتفالي والعيدي أيضا، ويؤمن عبد المجيد فنيش بأن أناه الفرده تظل ناقصة وغير مكتملة بغير وجود الآخر، وبغير مساهمته ومشاركته وتفاعله، وهي لا يمكن أن تكتمل إلا ب ( النحنية السعيدة) نسبة إلى النحن الجماعية، والتي هي ضد تلك ( الأنانية التعيسة) المنغلقة على نفسها، ولعل أهم وأخطر ما يميز هذه (النحنية الجماعية) هو أنها تضم الجميع، ولا تقصي أحدا من الناس، لأن المسرح هو الإنسان قبل كل شيء، وليس هو الظلال في مسرح الظل، وليس هو الدمية في مسرح الدمى، ولا هو مجرد صورة متحركة، كما في الصناعات السينمائية، ومن طبيعة هذا المسرح أيضا، والذي هو عيد النفوس وعيد الأرواح، قبل أن يكون لعبا وحكيا ومحاكاة، هو أنه رسالة قبل كل شيء، هكذا هو في شرع المسرحي الاحتفالي عبد المجيد فنيش، وما أكثر الرسائل، الجميلة والنبيلة والهادفة، في مسرح هذا المسرحي الشاعر والمفكر، ورسائله ليست موجهة لفئة من الناس، وليست موجهة لحقبة تاريخية معينة، وهي صالحة للإنسان في كل زمن ومكان

ويمكن أن أقول عن هذا المسرحي الاستثنائي ما يلي، هو احتفالي وكفى، وفي هذا النعت يختبئ تاريخ طويل وعريض وعميق من الأفكار الجريئة ومن المواقف المبدئية ومن المواجهات ومن الأفكار ومن الصور ومن الشهادات والمشاهدات ومن القناعات والاختيارات، لقد انخرط هذا المسرحي في مشروع (جديد) غير مضمون العواقب، وكان يمكن أن ينتهي عند بدايته التأسيسية الأولى، فقط لأنه مارس حقه في مخالفة ما لا ينبغي مخالفته، ومارس حقه المشروع في اختيار ذاته ومساره

احتفالي قبل البيانات وبعد البيانات

وعبد المجيد فنيش هو احتفالي قبل أن تظهر البيانات الاحتفالية، لأن وجوده أسبق، ومسرحه سابق، ورؤيته العيدية الاحتفالية سابقة، وعندما سمينا الاحتفالية باسم الاحتفالية، فقد كان ضروريا أن تعرفه هذه الاحتفالية وأن يعرفها، وأن يجد نفسه يقول، كما قال أرخميدس من قبل :  وجدتها .. وجدتها.. وجدتها

وكان من حقها هي أيضا أن تقول فيه وعنه: وجدته.. وجدته، وجدته

ولو لم يكن هذا المبدع الفنان احتفاليا، روحا وفكرا وأخلاقا، لما عاش في صفها وكنفها، ولما دافع عنها، ولما تحمل الأذى بسببها، وذلك على امتداد أكثر من أربعة عقود من زمن قرنين وألفيتين وعبد المجيد فنيش ليس مسرحيا مدرسيا، وهذه هي أم كل الحقائق في مسيرته ومساره وتاريخه، وهو لا يستظهر المعلومات السابقة، وهو لا يبدع تحت وصاية الأسلاف السابقين، ولا يحتكم للجاهز من المقولات ومن الصيغ المسرحية، وبهذا فقد كان أحد المؤسسين الأساسيين لأكبر وأخطر تيار مسرحي في العالم العربي، والذي هو التيار الاحتفالي، لقد آمن بالتفكير العلمي والفكري والفني المنفتح، ولم يؤمن بالإيديولوجيا المنغلقة على أوهامها وشعاراتها، ولقد كان ذلك في زمن غير احتفالي وغير ودي وغير متسامح وغير ديمقراطي؛ زمن تغوّلت فيه سلطة وسلطان وسطوة واستبداد وهيمنة هذه الإيديولوجيا على الثقافة وعلى عقول المثقفين والفنانين، في المغرب وفي كل العالم العربي، ويومئذ، كان الفرح ممنوعا، وكان الاحتفال مؤجلا، وكان الاختلاف غير مسموح به، وكان باب الاجتهاد الفكري مغلقا، وكان التجريب حقلا ملغوما، وكان الإيمان بالهوية المغربية والعربية والعالم ثالثية رجعية، وكان النبش في التراث تخلفا، وكان الخروج عن الصف ( العسكري) انحرافا وتحريفا، وكان السؤال الفكري هرطقة وفضولا بلا معنى، وكانت الحرية فوضوية، وكان نقد الرموز الفكرية السائدة وقاحة، وإن من يجرؤ على أن يسبح ضد التيار، لا يمكن أن يكون إلا مثقفا ملعونا ومتخلفا ورجعيا

وهذا ما جعل عبد المجيد فنيش ـ ومعه كل الاحتفاليين الصادقين ـ يشذون عن هذه ( القاعدة) وينحازون للجمال والكمال وللحق والحقيقة، وأن يكونوا مع الإنسان في كل زمان ومكان، وأن يطلبوا الجمال لجماله، وليس لأنه آت من جهة اليمين أو من جهة اليسار، أو من الشرق او الغرب، ولأن عبد المجيد فنيش فنان حر ومتحرر، ولأنه سيد نفسه، وسيد اختياراته، وسيد عالمه المسرحي، فإنه لم يتخندق في خندق حزبي، ولم ( يبدع) تحت أية مظلة، ولم يكن صوتا في أية جوقة، ولقد فضل أن يكون صوتا من أصوات الفن والفكر والعلم والحياة والتريخ، وكان ذلك إيمانا منه بجمال وجلال الفن، ودفاعا عن كرامة الفنانين، وكان اقتناعا منه بقدسية المسرح، وبأن الأصل في الفنان الحقيقي أنه سلطة رمزية قبل كل شيء، هو سلطة غير قابلة للتفويت ولا للمقايضة ولا للمصادرة

لقد آمن هذا الاحتفالي بالإنسان العاقل، وبالإنسان الحر، وبالمواطن المدني والديمقراطي، وقدم مسرحا باللغة العربية، وقدم مسرحا بالعامية المغربية، وقدم مسرحا بلغة الزجل والملحون، وقدم مسرحا بفنون محلية واقعية وبقضايا إنسانية وكونية عامة أيضا ولهذه الاحتفالية في حياة المسرح ومسرح الحياة، لها بالتأكيد ألف معنى، ولقد كان ضروريا أن يطرح السؤال التالي

ـ ما معنى أن تكون احتفاليا؟

عبد المجيد فنيش: أحد الأعمدة الأساسية الكبرى في تاريخ الثقافة المغربية

وهكذا تساءلت الاحتفالية، في أحد بياناتها، ليكون الجواب هو كالتالي

معناه هو ( أن تكون مؤمنا بأن التنظير الفكري هو أساسا حالة وجودية متجددة، وذلك قبل أن يكون مكونا من مكونات هذا الجنس الأدبي أو الفني ـ أو ذاك، أو ان يكون أرضية فلسفية لأية حركة فكرية أو جمالية، فمن طبيعة الكائن الاحتفالي أن ينظر دائما، وان يخرق نظره الأجساد والأشياء والعاني البعيدة جدا، تماما كما تنظر جدتنا زرقاء اليمامة، وأن يتم هذا النظر بالحس والحدس معا، وان يتحقق بالعين والعقل أيضا، وان نحياه بالنفس والروح كذلك، وان يكون بإمكان هذا الاحتفالي ـ الناظر والمنظّر ـ أن يتصور وان يتخيل وان يحلم ويرحل، على متن الخيال، وان ينشد الأجمل والأكمل دائما، وان يبني في الذهن عوالم مثيرة ومدهشة، وذلك قبل أن يبنيها على أرض الواقع، وأن تكون له الجرأة على أن يسال، وأن يبتكر الأسئلة، وان يتساءل، وعلى أن يواجه كل مسالة، وجودية كانت هذه المسالة أو كانت اجتماعية أو سياسية أو فكرية ،هو يردد دائما، سواء أمام نفسه أو أمام الناس، ونجده يقول ويكتب

أنا أنظر، إذن فانا لست أعمى

وأنا أنظر ـ من التنظير ـ فأنا لست أميا، ولست جاهلا، ولست معاديا للعقل)

وهذه فقط صورة واحدة، من ملايين الصور الممكنة، والتي يمكن أن تؤخذ من ملايين الزوايا، والتي قد تختلف من مصور إلى آخر، ومن زاوية إلى غيرها، ولكنها في النهاية لابد أن تلتقي عند الحقيقة الأساسية التالية، وهي أن عبد المجيد فنيش هو أحد الأعمدة الأساسية الكبرى في تاريخ الثقافة المغربية، الحديثة والمعاصرة، وهو أحد الذين أسسوا وجددوا وأبدعوا وطوروا المسرح المغربي، بكل روافده الواقعية والتراثية، وبكل تقنياته وآلياته المتعددة والمتنوعة، والذي كان في هذا المسرح معلما ومربيا ومؤسسا ونقابيا وفاعلا جمعويا ومناضلا ضد كل ما لا يخدم إنسانية الإنسان، وضد كل ما لا يقبله عقل، ولا يقبله الحس السليم، وضد كل ما لا يتوافق مع إنسانية الإنسان ومع حيوية الحياة، ومع مدنية المدينة

الدكتور عبد الكريم برشيد

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com