حين خرج الماء من صخر الصوان

حين خرج الماء من صخر الصوان
فيصل جلول

صدر بتاريخ  19/06/2023للكاتب فيصل جلول كتاب جديد تحت عنوان:حين خرج الماء من صخر الصوان: علي عبد الله الصالح: 1942-2012

لماذا هذا الكتاب ولماذا الان؟

كان ينبغي ان يصدر هذا الكتاب في غُرّة الألفية الثالثة عام 2000 ولصدوره هذا العام قصة جديرة بان تروى

يرجع اهتمامي بالشؤون اليمنية الى دراستي الجامعية في معهد العلوم الاجتماعية في بيروت. اخترت حينذاك أطروحة الجدارة في الانتروبولوجيا عن أصول العامليين ومعتقداتهم في جنوب لبنان، لاكتشف فرضية هجرتهم من اليمن الى بلاد الشام بعد خراب سد مأرب، وانتمائهم الى عاملة بن سبأ

ما زال العامليّون يتوارثون حتى اليوم اللقب العاملي مع تحريف مستجد للاسم، فيقال عن جبلهم الواقع في الجنوب، جبل عامل بدلا من عاملة. واذ يختلف المؤرخون اللبنانيون حول نسبة جماعات وأماكن لبنانية أخرى، فإنهم يتفقون على عاملية الجنوب اللبناني، بل يمكن ان نلاحظ تسميات مرتبطة بهذا النسب مثل: الكلية التربوية العاملية او الشاعر العاملي او “الزعيم” العاملي

جاءتني صدفة غير متوقعة لزيارة اليمن في بداية عملي الصحفي في باريس، في ثمانينات القرن الماضي، حيث كنت بين قبضة من المساهمين في تأسيس مجلة “اليوم السابع” الفلسطينية

تَلَقّتْ المجلة دعوة رسمية لزيارة شمال اليمن فأبتعد عنها الجميع، ذلك ان صورة هذا البلد في الخارج ما كانت جذابة حينذاك. ناهيك عن هامشيته في تصنيفات تلك الحقبة، فهو بالكاد خرج من مَقاتِل رؤسائه فيما رئيس الدولة يتجول في شوارع عاصمته بمواكبة آليات مدرعة

التقطتُ الدعوة برغبة جامحة، رغم أني لم أعرف يمنيا واحدا من قبل وكانت معلوماتي حول اليمن سطحية للغاية، لكن فضولي لزيارة سد مأرب والإطلاع على سيرة القبائل التي هاجرت بعد خراب السد، طغى على ما عداه. كانت تلك الزيارة الأولى وكانت فاتحة تواصل مع هذا البلد وناسه لم ينقطع حتى اليوم

 بعد احتجاب “اليوم السابع” في تسعينيات القرن الماضي، انتقلتُ الى العمل في أسبوعية” الوسط” اللندنية منذ صدور عددها الأول. تابعت الاهتمام بالشؤون اليمنية على صفحاتها، حتى احتجابها في العام 2003. ثم انتقلت من بعد الى العمل على إعادة بناء بعض الصحف اليمنية وبخاصة “26 سبتمبر” ضمن استراتيجية اعلام واتصال جديدة ساهمتُ في وضع ملامحها. كنت أُطِلُّ على القراء اليمنيين من خلال عمود اسبوعي في الصحيفة تحت عنوان “عرب الألفية الثالثة” وذلك الى ان أطاحت الاحداث بعقدي الموقع مع هذه المؤسسة في بداية العام 2011

 سبقت الإشارة الى ان هذا الكتاب كان ينبغي ان يصدر مُكَثفاً في بداية الالفية الثالثة، عندما كنت اعمل في “مؤسسة الحياة” السعودية وذلك ضمن كتابي المعروف ” اليمن ــــ الثورتان، الجمهوريتان، الوحدة” الصادر في طبعته الأولى عام 1999 عن دار الجديد في بيروت وفي طبعته الثانية عام 2000 عن الدار نفسها وهو نافد اليوم. في هذا الكتاب الذي يغطي زمن اليمن السياسي بين 1962 و1994، اعتمدت تحقيباً للسيرة السياسية اليمنية بالاستناد الى عهود الرؤساء اليمنيين الذين تعاقبوا على الحكم شمالا وجنوبا خلال تلك الفترة. وكان عليّ ان انشر سيرة الرئيس علي عبد الله صالح وسيرة نائبه علي سالم البيض كما نشرت سير الرؤساء السابقين

اعترضتني صعوبات جمّة منذ مقاربتي الأولى لهذه السيرة، ذلك ان الرئيس الذي عرفته عن قرب وحمّلني ـــــ بعيدا عن جهازه الدبلوماسي ـــــ رسائل و”معاتبات” انقلها الى زعماء وشخصيات مهمة داخل وخارج اليمن، لا يحب الحديث عن نفسه. اما سيرته الرسمية المنشورة فهي تتضمن اشارات وتواريخ مختصرة، رقمية، باردة لا تتيح الاحاطة بظروف انتقاله من قاعدة المجتمع الى قمة الدولة، فيما شطر من  المحيطين به وليس الكل، يفضلون الحديث الدعاوي الرسمي المتحفظ، بل عبارات المديح والتقريظ الثقيلة الظل؛ والبعض الاخر لا يحب الافصاح عن هويته والإشارة اليه كمرجع جدير بالثقة يمكن اعتماده حجة في حكم او مقاربة او استنتاج

بالمقابل لا يمكن الاستناد حصرا الى روايات هجومية ومعادية يتناولها خصوم الرجل ويُرَاد منها شيطنته وإلقاء النتائج السلبية للتاريخ اليمني المعاصر على عاتقه. الأمر الذي اضفى على مهمتي صعوبات جدية، تمكنت من تذليل بعضها بمساعدة الجنرال علي محسن الأحمر الذي يُعتبرُ واحدا من بين قلة من اليمنيين الذين عرفوا الرئيس صالح عن كثب وعاشوا معه منذ الطفولة الى ما يسمى ب الربيع العربي، (قبل القطيعة في العام 2011 التي تسببت بأذى كبيرا للدولة اليمنية)

كانت للرئيس صالح في حينه علاقات وثيقة للغاية مع الجنرال الأحمر، فاستندت اليه في تحضير القسم الأول من سيرة الرئيس الشخصية وعرضت الفصل على أستاذ جامعي يمني ليساعدني في ضبط بعض الاسماء والتواريخ والمعلومات فما كان منه، سامحه الله، إلا الاتصال بالمحيطين بالرئيس وأعاد لي الفصل مدججا بملاحظات اعتراضية من نوع “عدم جواز التطرق الى حياة الرئيس الخاصة” علما ان المعلومات “المشتبهة” مسنودة الى الجنرال الأحمر والى رئيسي الوزراء الراحلين عبد العزيز عبد الغني وعبد الكريم الارياني وآخرين

عرضت الامر على المقربين من الرئيس وحدثته شخصيا عما جرى، فأحالني الى شخصية سياسية قريبة منه. طيّبَ الرجل خاطري وقال لي ان الرئيس لا يحب الكاذبين وان الصحفي الفلاني الذي كتب سيرته بتملق ومنهج دعاوي يستحق كتابه الاستقرار في سلة المهملات. وأكد لي هذا الشخص المحترم أنه يفضل اسلوبي ومنهجي لكن غالبية المنتمين الى البيئة الرئاسية تحبذ نصا مصاغا بأفعال التفضيل وأوصاف المبالغة

حملني اللقاء مع هذه الشخصية الهادئة والعقلانية على التخلي عن فكرة السيرة بانتظار فرصة أخرى، لذا غابت سيرة الرئيس علي عبد الله صالح عن كتابي المذكور اعلاه وغابت أيضا سيرة نائبه علي سالم البيض؛ فالحديث عن الوحدة والانفصال لا يتم بازدواج المعايير

استعدت فكرة الكتاب بعد اغتيال الرئيس علي عبد الله صالح في ديسمبر ـــــ كانون الاول 2017. كنت في هذا الوقت قد جمعت ملاحظاتي واستنتاجاتي في دفاتر مستقلة لكنني لم انكبّْ على العمل إلا في العام 2019 وصولا الى العام 2023 تاريخ صدور هذه السيرة، التي سبقتها سِيَرٌ لنائب الرئيس علي سالم البيض وجار الله عمر القائد البارز في الحزب الاشتراكي ونصوص صحافية حول الشيخ عبد الله الأحمر رئيس مجلس النواب وعبد العزيز عبد الغني رئيس الوزراء ويحيى المتوكل أحد قادة الثورة الجمهورية

التقيتُ الرئيس الراحل علي عبد الله صالح للمرة الأولى في العام 1987. اتصل بي الدكتور عبد الكريم الارياني قبل ساعتين من اللقاء “لا تتحرك من الفندق من الان فصاعدا. سأمرُّ عليك ونخرج معا في سيارتي”. اتجهنا الى منزل الرئيس الشخصي، انتظرنا دقائق في صالون قوسي الشكل او هكذا بدا لي، ثم جاء الرئيس مرحبا بي وكأنه يعرفني منذ زمن بعيد “كيف حالك؟ كيف رأيت اليمن؟” اقتصر اللقاء على الجنرال عبد الله البشيري وربما الجنرال القاسمي ما عدت اذكر جيدا. كان مهتما بمعرفة نتائج المصالحة الفلسطينية ــــــ الفلسطينية في الجزائر التي شاركت بتغطيتها ونشرت تفاصيلها في مجلة “اليوم السابع”. كان بعض اطفال الرئيس يلعبون بالقرب منا، يركضون في المكان ويحدثون ضجيجا. لم يعبأ بهم. بدا الامر طبيعيا بالنسبة له وللحاضرين. من جهتي كنت اكتشف للمرة الأولى مسؤولا سياسيا لا يقيم وزنا للبروتوكول الذي يرسم هرمية وحواجز وحدود ونمط سلوك رجل السياسة. طلبت منه اجراء مقابلة خاصة للمجلة قبل سفري وافق على الفور وبدا مستغربا عندما اعتذر مني الارياني بقوله ان ما تبقى من اللقاء مخصص لبحث قضايا حكومية. فانصرفت على وقع عبارة الرئيس “ملتقيين”

 في هذا اللقاء طرحت السؤال الذي رافقني أكثر من ربع قرن. كيف صار هذا الرجل رئيسا للجمهورية مختلفا عن الرؤساء الذين قابلتهم، بل القسم الأعظم من رجال سياسة التقيتهم وكنت اسخر من حرصهم الشديد على تعظيم البروتوكول وأتقزز من جملهم الخشبية وعباراتهم الفارغة

لم يطلب مني علي عبد الله صالح ان اكتب سيرته او كتابا عنه ولعله كان يحتقر المنافقين اذ قال لي ذات يوم ممتعضا من أحد رجال السياسة: انظر الى ابتسامته الصفراء. لقد انقذته من الوحل في المرة الأولى والثانية والثالثة وفي كل مرة كان يعود للتآمر عليّ”

 نعم لم يطلب مني علي عبد الله صالح ان اكتب شيئا. كان يقول لي باللهجة اليمنية ما معناه “هذا البلد بلدك. لك ان تفعل ما تشاء كما في لبنان”

هذا الكتاب هو ما شِئْتُ وما أتمنى ان يعيد الى علي عبد الله صالح ما يستحقه في تاريخ بلده السياسي المعاصر. ولعل أفضل الختام ما ذكره الراحل والده عبد الله صالح عفاش. هو لم يخطئ في قراءة مستقبل ابنه الأصغر، الذي خرج فعلا من صخر الصوان ولعب أدوارا تاريخية في بلاده، بين جبل نُقُمْ في شرق صنعاء وجبل عَيْبَان في غربها

فيصل محمد جلول

باريس في 14 مايو ـــــ أيار 2023

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com

لا تعليقات بعد على “حين خرج الماء من صخر الصوان

  1. مزيدا من الالق جريدة تقيم وزنا للاصدارات شاملة متنوعة المواضيع والاهتمامات مشيرة موفقة استاذة زهرة

التعليقات مغلقة.